٢٧‏/٣‏/٢٠١٠

الفجوة

يوم جديد
أين مني مجلس أنت به
فتنة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم ٌ
وفراش حائر منك دنا
شعر ..إبراهيم ناجي
قصيدة ..الأطلال

ذاهلا كنت عن كل شيء ، وصوت أم كلثوم ياخذني معه إلى أبعد الآفاق . دقائق من نشوة الروح يتلوها تأمل جمال الكلمات وروعة الموسيقا والجودة التي تغلف العمل بكل تفاصيله . قبل النوم أمد يدي كالعادة إلى الكتاب . أقرأ بعض صفحات تغسل إرهاق اليوم الطويل . لم يكن الكتاب إلا رواية لبهاء طاهر . في لحظة أكتشف أن أم كلثوم قد رحلت منذ عقود ، وأن بهاء طاهر -أطال الله عمره - جاوز السبعين . كأن هذه الأجيال القديمة لا تزال على القمة حتى الآن ، وأن فجوة زمنية كبيرة قد مرت دون أن يأتي من يتسلم الراية . لا أقصد أن كل هذه السنوات كانت قفرا من المواهب والإبداعات ، لكن لا شك أن تراجعا كبيرا قد حدث ، على المستوى القوة والزخم والتأثير ، وأن معدن الأجيال السابقة لا يزال أكثر بريقا وتوهجا .
مع أنه قد انتهى - للأبد ربما - عصر المطرب الأول والزعيم الأوحد والكاتب الأكبر ، وجاء عصر التعدد والانفتاح غير المحدود - لكن الكلام هنا عن عمق الموهبة وقوة المحتوى الإبداعي نفسه . فإذا كان الإعلام في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ساهم في صنع شعبية أم كلثوم الجارفة ، وجعل منها أسطورة قريبة من القداسة لا يمكن المساس بها ، فإنه ليس سببا في أن يستمتع بها شخص من الجيل الحالي لم يعاصر شيئا من هذا كله .
الأسباب ؟ كثيرة . فإن كانت المواهب لا تنضب ، فالمناخ المواجب لرعايتها قد يتغير . تغيرات كثيرة توالت على المجتمع ، تدنت بطموح أفراده من الحلم العام إلى اشتهاء الخلاص الفردي ، وبمستوى تعليمهم إلى هوة الجهل ، وبالمثقفين إلى حد التجاهل أو حتى الازدراء .
الله الذي خلق حنجرة أم كلثوم قادر على خلق من تماثلها أو تفوقها ، لكنها قد لا تجد من يدفع بها إلى الساحة ويأخذ بيدها على الطريق ، أو قد لا يكون لديها ذلك الإصرار والاجتهاد والإخلاص في العمل ، وحسن الاختيار والذائقة ، أو قد تحمل موهبتها نحو تقديم أعمال هابطة ترضي السوق السائدة .
وما بأيدينا إلا السعي والتمسك بالأمل في الإصلاح . على مستوى الأدب هناك رواج في دور النشر والمكتبات الجديدة . وهي فرصة أن تقدم للساحة عددا أكبر من أصحاب الموهبة . وعالم الاتصالات المفتوحة يعطي الكثير من المساحة للإبداع غير المحدود بقيود المكان والمؤسسات . وقد يأتي اليوم الذي نستمتع فيه بما ينتجه حاضرنا دون أن نضطر للترحم على الماضي ، ونبش القبور بحثا عن رحيق إبداع !