٩‏/٨‏/٢٠١٠

أطياف شجر ورضوى ..مرة أخرى

يوم جديد

وأمي حافظة شوارع مصر بالسنتي

تقول لمصر :يا حاجة

ترد : يا بنتي

تقول لها :احكي لي فتقول :

ابدئي إنتي

شعر..تميم البرغوثي

قصيدة وديوان ..قالولي بتحب مصر ؟ قلت مش عارف


سبق وكتبت باختصار عن رواية أطياف للدكتورة رضوى عاشور ، واليوم أقدم عرضا ملخصا لأهم أحداثها ..


لماذا شجر ؟
قالتها الطفلة باستغراب وغضب ، لأهلها الذين أسموها ذلك الاسم الغريب . أجابوا بأنه اسم جدتها الكبيرة ، والحق أن هذه الجدة لم تكن امرأة عادية ، بل هي المرأة التي فقدت زوجها في الخامسة والعشرين ، فرعت الأرض وربت الأبناء مستغنية عن الرجال ، وتحملت وفاة ابنتها الصبية بجلد لا مثيل له .
تتذكر شجر ، تتأمل -وقد صارت خمسينية - صورة زفاف والديها بعد سنوات من رحيلهما ..
" ماذا حدث ؟ لماذا قفزت فجأة من شجر الطفلة إلى شجر في كهولتها ؟! أعيد قراءة ما كتبت ، أتملاه ، أحدق في الشاشة المضاءة ، أتساءل : هل اواصل حكاية شجر الصغيرة أم أعود إلى الجدة القديمة وأتتبع مسار ذريتها وصولا مرة أخرى إلى الحفيدة ؟ "
بهذا التساؤل تقطع د. رضوى عاشور السرد وتفاجئ قارئها في الفصل الأول من الرواية ، الرواية التي تدور في حكايتين متوازيتين لكن متقاربتين إلى حد التلاصق : حكاية شجر البطلة المتخيلة ، وحكاية رضوى الكاتبة نفسها تحكي بعضا من سيرتها الذاتية ، وتتوقف أحيانا لتراجع مع القارئ افكارها وخواطرها أثناء الكتابة .
............................................
رضوى..
الصورة في أوائل الخمسينات : طفلة قصيرة الشعر شاحبة الوجه نوعا تقف بين زملائها المصطفين بزي المدرسة الموحد . مدرسة فرنسية اسمها منقوش بحروف كبيرة على جانبي الحافلة التي تذهب وتجيء بها كل يوم . لكن الاسم لا يلبث أن ينزوي إلى حروف صغيرة بين قوسين تحت الاسم العربي الجديد بعد تأميم المدرسة . ما الذي يبقى في الذاكرة من هذه السنوات البعيدة ؟ مدام ميشيل : مدرسة اللغة الفرنسية ، جافة إلا مع الطالبات الأجنبيات واليهوديات . تضطهد رضوى ، توبخها على أخطائها في الإنشاء ، تتقصدها حتى تبكي وسط زميلاتها في الفصل .
............................................
شجر ..
كان الأستاذ فوزي مختلفا . مختلفا جدا عن مدام ميشيل مدرسة رضوى وكذلك عن غيره من المدرسين الذين اعتادتهم شجر وزميلاتها في الصف السادس الابتدائي .
" ما معنى كلمة : تاريخ ؟ "
سألهم بابتسامة هادئة في أول لقاء ، واستمع إليهن جميعا ، وفي آخر الحصة كان الواجب الذي طلبه منهن غريبا ومدهشا : ان يفكرن في السؤال ، ويسألن الأهل والكتب ، ثم يخبرنه بالجواب في الحصة القادمة . لا حفظ ؟! لا كتابة تتعب الأيدي ؟! أحبته التلميذات ، أما شجر فاعتبرته ملكا هبط إليها من السماء ، حتى عادت من عطلة نصف العام فوجدت مدرسا آخر . أين ذهب الأستاذ فوزي ؟ ثار السؤال في كل مكان ولا أحد يجيب .
لم تعرف إلا في العام التالي حين أخبرتها زميلتها أنه سجن . لماذا ؟ أجابت الزميلة أنه شيوعي يعادي عبد الناصر . أخذت العنوان وذهبت إلى بيته . استقبلتها والدته . أكدت لها الحقيقة .
بدت الأسئلة الثائرة تضرب براءة الصبية بعنف : كيف يوضع هذا الملاك في السجن ؟ وكيف يضربها أبها لأنها ذهبت لتسأل عنه وينعتها بقلة الأدب ؟
..................................
رضوى ..
التي قطعت ميدان التحرير متجهة إلى المدرسة ، بادئة بالباب الصغير المخصص لأطفال الحضانة – لم تكن الطفلة ، بل الأستاذة الجامعية التي تخطت الخمسين . تتذكر أول أيام الدراسة : طفلة واقفة تنتظر أن ينادى اسمها لتركب الحافلة . تتوقف أمام باب المسرح الذي كانت تبهرها فيه رقصات الباليه في حفلات المدرسة السنوية . الآن تحول المسرح إلى مسرح تجاري ، تحول المقهى الذي كانت تجلس فيه مع المثقفين في السبعينات إلى مطاعم للوجبات السريعة ، وقبل أن تعبر البوابة استوقفها أحد العاملين ، ولم يسمح لها بالدخول .
................................
شجر ..
صورة (1) :
شجر شابة في الخامسة والعشرين ، عن يمينها المنصة والأساتذة في الأرواب السوداء ، وأمامها في المقاعد زملاؤها والأهل والأصدقاء . تقرر اللجنة منحها درجة الماجستير في التاريخ الحديث بتقدير امتياز .
لا تشي الصورة بما سيحدث بعد شهور قليلة ، التحقت باعتصام الطلاب في أوائل 1972 ثم اقتيدت مع الآخرين إلى السجن . قضت به عشرة أيام ثم عادت إلى عملها . استدعاها رئيس الجامعة . عنفها . هددها بالطرد من الجامعة . لكنها لم تعتذر عن موقفها ، وبدأت بسرعة في التحضير للدكتوراة .
صورة (2) :
قريبة الشبه من الأولى ، تحصل فيها شجر على الدكتوراة .

صور أخرى كثيرة :
شجر في الروب الأسود تناقش رسائل الطلاب ، تتقدم في العمر ، يتغير شعرها الأسود القصير إلى رمادي مصفف للخلف بوقار .
..............................
رضوى ..
يناير 1959 ، رضوى تدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة ، بعد 4 سنوات ونصف من رحيل جدها أستاذ اللغات الشرقية بالكلية نفسها . لكنها – بعكس شجر – تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية . تعين معيدة بجامعة عين شمس وتواصل رحلة الماجستير والدكتوراة .
" لم لا أكتب سوى هذه النتف من حياتي في الجامعة ؟ كسل أم قصور أم مراوغة ؟ أم حكمة تتشبث بمسافة تجعل السنوات الثلاثين التي قضيتها فيها تبدو لي الآن كبحر يمكن أن أغرق فيه ؟ أي كاتب استطاع أن يضع كل عمره في نص واحد ؟ "
.............................
شجر ..
تعرفت عليه في المصعد . طفل صغير في الرابعة من عمره . اسمه كريم . أخذها بذكائه وخفة ظله وثرثرته اللطيفة . صارا صديقين يتزاوران رغم فارق العمر الشاسع .
في سبتمبر 1981 اعتقلت مع أساتذة الجامعة الذين اعتقلوا وفصلوا من العمل . لم تفزع . بقيت في السجن تتأمل حياتها بهدوء ، تتأمل علاقتها بالطلاب الذين تدرسهم أو الذين عرفتهم عن قرب وهي تشرف على رسائلهم . حين عادت إلى البيت كان كريم غاضبا . لم يحتمل أن تتركه شهورا دون سؤال . عقله لم يصدق أنها مسافرة كما أخبرته أمه . لم تجد بدا من إخباره بحقيقة سجنها . عادت إلى الجامعة بقرار جمهوري بعودة المفصولين .
.................................
رضوى ..
ذات صباح تدخل الكلية . يستوقفها هيكل من المعدن والزجاج خلفه ملابس معلقة . سألت المرأة الجالسة فأجابت بأنها مغسلة افتتحت هذا الأسبوع . صدمها المشهد القبيح في مدخل الكلية . جرت مذهولة إلى الوكيل . قال إنه لزيادة موارد الكلية . كان المشهد أسوأ في المبنى الآخر : جوارب ، أحذية ، توابل ، أشرطة كاسيت ذات صوت مرتفع ، إذ كانت القاعة قد تم تأجيرها كذلك . بعد جلسة عاصفة ومداولات في مجلس القسم تقرر إزالة المغسلة والمحل .
................................
شجر ..
إذن انتصرت رضوى في جولتها فماذا عنك ِ يا شجر ؟
كان الأمر غريبا وشجر تصحح أوراق الإجابة : جملة تتكرر في سطرين متعاقبين سهوا أو تسرعا من كاتبها ، لكن كيف يتكرر ذلك في أربع ورقات متتالية ؟ أعادت فحص الأوراق . تأكدت . حالة غش جماعي . كيف خانها الطلاب الذين منحتهم عمرها ؟ وقفت أمامهم في المدرج . خرجت مشاعرها المتوترة من فمها دون تعقل أو ترتيب . تحدثت دون وعي عن الجامعة والحلم والأجيال التي تخرجت منها .
بدأ الطلاب يتحدثون . قالوا إن الغش هو القاعدة في المدارس وفي الجامعة ، وإن المراقبين يساعدونهم عليه . قام أحدهم وقال لها إنه غش في هذا الامتحان وفي غيره ، لكنه طالبها ألا تمضي في فكرة ترك الجامعة ، فوجودها يحفظ له قيمة ونورا في الظلمات التي تحيط به أينما ذهب . كتبت مذكرة تطالب العميد بإعادة الامتحان بعد ثبوت الغش في أكثر من ربع الأوراق . لكن العميد رد بأن المراقبة دقيقة والامتحانات منضبطة . لم يفته أن يرجع التشابه إلى أن الأسئلة متوقعة ومتكررة والطلاب يحفظون المذكرات بالنص !
..........................................
رضوى ..
سبتمبر 1981..لم تذهب رضوى إلى المعتقل ، وإن فصلت من الجامعة . عرفت بالخبر وهي حبيسة غرفة في مصحة لأمراض الصدر بالمجر ، تعاني من ارتشاح بلوري .
" الأوضاع في مصر لها وطأة أحد من تلك الآلام التي تمتد من ظهري إلى كتفي الأيسر وعنقي بعد كل مرة يضعون الإبرة في الرئة لسحب ما بها من ماء . "
تقضي وقتا بطيئا مع المذياع تسمع أخبار اعتقال أصدقائها وزملائها في مصر . وتتعلق عيناها بالنافذة انتظارا لوقت مجيء زوجها وابنها للزيارة (وكان زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي قد تم ترحيله من مصر مع اتفاقية السلام مع إسرائيل ، وصارت تسافر وابنها تميم إليه في أوربا مع عطلات الصيف) .
1982..انهمكت رضوى في الإعداد للسفر . ودعها مريد في المطار وسافرت هي وتميم إلى القاهرة . وصلت فجرا . نامت ولما استيقظت انهمكت في فتح الحقائب وترتيب الأشياء . لم تكن تعرف أنه في هذا الوقت كانت إسرائيل تقوم بالمذابح في بيروت . لماذا يخالجها هذا الشعور الغريب بالذنب ؟ هل كانت معرفتها أو متابعتها ستقدم أو تؤخر ؟
عرفت وتابعت باهتمام . أعداد الجثث التي تم التعرف عليها ، والأخرى التي دفنت في مقابر جماعية أو تحت الأنقاض . حكومة إسرائيل تنشر إعلانا مدفوع الأجر في كبريات الصحف العالمية تنعي القتلى وتحيل الحادث إلى وحدات لبنانية .
.......................................
شجر ..
ما الذي يدفع أستاذة جامعية معروفة بالهدوء والوقار أن تفعل كل هذا ؟ تصرخ في وسط الحرم الجامعي ، يصفها عميد الكلية بأنها فقدت عقلها ، تقدم استقالتها من الجامعة بعد أكثر من ثلاثين سنة ، تغلق البيت على نفسها ، ثم تأخذ سيارتها في رحلة فردية تأملية طويلة . لم يكن ما خسرته قليلا . كريم ليس كما كان . صامت في ثبات متكلف ، لا يريد أن يحكي شيئا عن تجربة اعتقاله والتعذيب الذي تعرض له هو وزملاؤه . خليل : الطالب النابغ الذي توقعت منه الكثير ، والذي دافعت باستماتة عن تعيينه معيدا رغم انضمامه للجماعات السلفية . الآن تغير . صار يجيد مواءمة الأمور ولا يصطدم بأحد . يحصل على الماجستير والدكتوراة بسرعة ولا يثير المشاكل . تستدعيه . تعنفه لأنه اختار أسهل الطرق وأقبحها ، لكنها لا تستطيع أن تغير من أمره شيئا .
ويوسف ؟ صداقة عمر وزمالة جامعة جمعتهما لسنوات طويلة . تفاهم وتوجهات مشتركة . فاجأها بالزيارة في لندن بعد الحادثة . حين تعرضت للاعتداء من متطرفين بعد ما قالته في ندوة علمية عن المفكر اليهودي مارتن بوبر ، جعل الحضور يتهمونها بالتعصب للعرب ومعاداة السامية . جمعهما أيضا الغضب والثورة في اجتماع مجلس القسم في ذلك اليوم . رسالة دكتوراة رفضها عضوان في لجنة المناقشة لأنها لا تصلح . المشرف يشكل لجنة جديدة تقبل الرسالة وتمنح الباحث درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف . شجر تغضب ويعلو صوتها . يوسف يثور بشدة حتى يخرجه أحد زملائه من الاجتماع ، الذي يقر المجلس في نهايته بحصول الباحث على الدرجة . تقرأ الإعلان في مدخل الكلية :
" توفي مساء الأمس الأستاذ الدكتور يوسف علي فهمي . الأستاذ بالكلية "
لا تصدق . يخبرونها أنه أصيب بأزمة قلبية مات على إثرها . سافرت إلى أمه في الصعيد . لم تستطع أن تقول لها ما قالته في كل مكان إن مجلس الكلية قتله . قبّلت رأسها وعادت إلى القاهرة .
لم تستطع التحمل . ثارت وهي تشهد عبث وقبح ما يسمى بالمهرجان السنوي الذي يقولون إن الطلاب يمثلون فيه مشاهد من تاريخ مصر ، بصورة هزلية رديئة . ركضت وجذبت العميد من اجتماعه . لم يزد على أن ابتسم واستغرب غضبها . قررت بعدها مغادرة الجامعة .