١٦‏/١٢‏/٢٠٠٨

زﹶبد

يوم جديد
شاك الى البحر اضطراب خواطري
فيجيبني برياحه الهوجاء
ثاو على صخر أصم وليت لي
قلبا كهذي الصخرة الصماء
شعر..خليل مطران
قصيدة..المساء
" هكذا أصبح الوضع جيدا "
تمتم بها لنفسه بعد أن أحكم تثبيت الكرسي في الرمال ، وعدّل من وضع المظلة بحيث أصبح وجهه في مأمن من وهج الشمس ، وجلس مسترخيا وأخذ ينظر ﺇلى البحر الواسع أمامه ..
" ها أنا أفعل ما طلبوه فهل سينفع بشيء ؟ "
لم تكن لديه رغبة في السفر ، فلماذا يقطع كل هذه المسافة ليجلس على الشاطئ وقد انتهى الصيف وليس معه أحد من أصحابه ؟ ولكنه لم يجد شيئا ﺁخر ليفعله ، فاستسلم لرغبة والده الذي ألح عليه أن يسافر ويخلو بنفسه أمام البحر..
" أتظن أن هذا الخضم الواسع لن يقدر على حمل همومك البسيطة هذه ؟ "
هكذا قال له أبوه فهل قالها عن قناعة أم أنه يغريه بأي طريق للخروج مما هو فيه وحسب؟
قال لنفسه : لن أخسر شيئا من التجربة .
***
الجو الخريفي اللطيف ، والشاطئ الخالي ﺇلا من قليلين يتناثرون هنا وهناك ، صنعا حالة من الهدوء لم يكن يفضلها عادة لكنها قد تكون الأنسب في هذه الظروف ، فقد أصابته حالة من الاكتئاب بعد حادث السيارة الذي تعرض له ، ورغم أنه لم يصب بسوء ، وخرج على قدميه سالما ، ﺇلا أن التلف الكبير الذي تعرضت له السيارة لم يترك له سبيلا سوى أن يبيعها بثمن بخس ..يعتريه الضيق كلما تذكر لحظة خروج السيارة عن سيطرته ، وﺇحساسه أنها تقفز به في الهواء ثم وهو يراها كتلة من الحديد والزجاج المهشم ..
قال له أبوه ﺇن المهم هو سلامته ، ولم يعنفه – كعادته – على تهوره وقيادته السريعة ..هكذا قال هو أيضا لنفسه ولكل من سأله عن أمر الحادث ، لكنه لم يكن في داخله مقتنعا ، ظل شيء ما يؤرقه ، وبدأ يعزف عما حوله ومن حوله ، ويتحول ﺇلى العزلة وﺇطالة التفكير ..
بقي على هذا لفترة ، ثم عاد للخروج – مضطرا – مع بداية العام الدراسي ليذهب ﺇلى الكلية ، ولم يغب عن زملائه أنه ليس كعهدهم به ، حتى انتهى الأسبوع الأول وأتت نصيحة والده التي أيدها صديقه ( عادل ) ..ابتسم وهو يتذكر كلمات (عادل) حين قال له بحماس :
" ﺇنها فرصة لترى نفسك في مرﺁة البحر "
كعادته يفلسف كل شيء ، ويقول الكلام الكبير الذي يطالعه في الكتب ، ولم يفت عليه أن يهديه واحدا من كتبه رغم علمه أنه لا يحب القراءة ..
***
لم تختلف أفكاره في جلسته أمام البحر عن الأفكار التي كانت تعاوده في عزلته الأخيرة .. لا يعتقد أن تلف السيارة وحده سبب كل هذا ، فأبوه لم يغضب ، ويمكنه أن يشتري أخرى دون عناء ، لكن هناك دائما شيئا ينغص استمتاعه بوقته ، هناك شيء ناقص يجعله يشعر بالملل والضيق لأتفه الأسباب ..ها هي الأفكار نفسها التي لا تتركه تعود لتجر بعضها بعضا ، ولا يضيف الجلوس هنا سوى مزيد من الملل .
رأى أن يكسر الملل بالاستماع ﺇلى اﻹذاعة عبر المسجل الصغير الذي يحمله ، وجد أغنية يحبها وبدأ يهتز برفق مع ﺇيقاعها السريع ، ولكنها سرعان ما انتهت وحلت محلها مقطوعة موسيقية هادئة ..
" الكل يتـﺂمر عليّ اليوم ! "
لم يكن يحب هذا النوع من الموسيقا ، بل كان دوما يندهش من هؤلاء الذين يحضرون حفلاته ، ويجلسون ثابتين في مقاعدهم لسماع هذه اﻹيقاعات الرتيبة التي لا يصاحبها غناء ..ولم يطل صبره أكثر من دقيقتين حتى تحول ﺇلى محطة أخرى ، ثم ما لبث أن قام ليوقف كل هذا ويلبي نداء الجوع ..
***
مع العودة للتفكير عاد السؤال نفسه ﺇلى عقله :
" لماذا لا أشعر بسعادة حقيقية ؟ "
مع أن من أسبابها ما يتوافر لديه ويحسده عليه كثيرون في مثل عمره .. أب ميسور الحال لا يبخل على ابنه الوحيد الذي فقد أمه طفلا – بشيء ، ولا يضايقه بشدة في المعاملة أو بأي قيود على حريته ، ودراسة لا يحبها كثيرا لكنه ليس ناقما عليها ..أبوه يحبه لا شك ، وهو أيضا يبادله الحب ، ربما لا يتبادلان الحديث طويلا فهو يقضي أغلب الوقت مع أصحابه أو في دراسته ، وأبوه أيضا منهمك في عمله الذي لا يعرف هو عنه الشيء الكثير ، لا يقضيان أوقات ممتدة معا لكن الأمور تسير طيبة ، أو كانت كذلك ..
زفر وأخرج من حقيبته الكتاب الذي أعطاه ﺇياه (عادل) ..لم يكن يجد متعة في القراءة ، فأية متعة في ﺇجهاد عينيه ورأسه في كلام منثور على أوراق ؟ جعل يقلب في صفحات الكتاب . يقول (عادل) ﺇنه كتاب صوفي ، ماله بهؤلاء الذين يدورون حول أنفسهم وينشدون كلامهم الغريب ؟
تركه وراح يتذكر آخر مرة ذهب فيها ﺇلى البحر، كانت قبل شهرين برفقة أصحابه ، وقضوا أياما يسبحون و يلهون على الشاطئ ويتنزهون في كل مكان ، لكنه لا يذكر من هذه الأيام - على قربها - ﺇلا القليل .. لا يذكر ﺇلا بعضا من الصور الباهتة المتباعدة ، بينما رائحة البحر تبقى .
" لماذا لا تنسى هذه الرائحة ؟ "
اندهش .
***
مع الغروب لم يعد هناك مفر من التأمل ، خاصة مع هذا الصفاء الذي يغلف السماء ، وحالة الهدوء المطلق التي لا يكسرها سوى دفقات الأمواج التي تقبل وتبتعد في أصوات منتظمة متناغمة . بدا له الماء أكثر نقاء ، ورائحة البحر كأنها تتسلل داخل نفسه ، لماذا يحمل هدير الأمواج هذا الصوت المميز ؟ ربما لا يكون جميلا لكنه مميز..خاص..لا يمكن أن يسمع من مصدر ﺁخر .,كأنه صوت شيء خفي لا يبصر ، شيء في باطن هذه الزرقة وتحت هذا الزبد الأبيض ، يخفيه هذا البحر الذي يخفي في أعماقه الكثير ..يعود السؤال :
" لماذا لا تكتمل سعادتي أبدا ؟ "
فكر أن الله قد يكون غير راض عنه . يصلي أحيانا لكن كثيرا ما يتكاسل ..ربما يحتاج أن يكون أكثر مواظبة على العبادة ، فلعل هذا يبعده عن الضيق والهموم . راقت له الفكرة ، تبدو أفضل من الحيرة التي يدور فيها منذ بداية الأزمة .. ربما لو اجتهد أكثر في الدراسة فسوف ينسيه انهماكه كل شيء..لم لا ؟
راح يعب من النسيم الرائق بهدوء وعمق ، ويزيد من تطلعه ﺇلى البحر ..كأنه يستنطقه..لاحت في ذهنه صورة معلقة في البيت لأمه وهي تحمله رضيعا..هل يفتقدها ؟ لا يذكر عنها الكثير فقد ماتت وهو لا يزال في طفولته المبكرة ، لكن ربما لو كانت موجودة لأخرجته من حيرته ، أو لأعطى وجودها روحا مختلفة لكل شيء..
بقي على حالته يفكر، ثم وجد ذهنه قد أرهق فتوقف واكتفى بالتمتع بالنسيم البارد المنعش . فجأة قام متحمسا ، لكنه لم يكن حماسا لصنع تغيير جذري في حياته ، بل لينظر عن قرب ﺇلى الحسناء التي مرت من أمامه في ثياب البحر..

هناك ٥ تعليقات:

koukawy يقول...

بس يبقي كده هو عرف ليه هو مش سعيد
بس علي الله تكون هي المناسبه ليه

daktara يقول...

السعاده الكامله شئ صعب المنال
ربنا يهديه وينوله مراده
ويجب ان يكون قانع

أحمد فياض يقول...

koukawy ,dakatra
أسعدني مروركما جدا..
وأوافق على أن السعادة الكاملة غاية لا تدرك..تحياتي

إيمان عزمي يقول...

كيف حالك أخى؟
لم أقرأ لك عمل منذ وقت طويل
القصة دعوة للتأمل فى حياتنا. بها فلسفة تجتاج للاهتمام و التمعن عند قراتها
تحياتي لقلمك و فى انتظار جديدك

أحمد فياض يقول...

أنا بخير والحمد لله..
هناك أكثر من فكرة ، لكن لم أبدأ في كتابة قصة جديدة بعد..
سعدت بوجودك..