٢‏/٢‏/٢٠٠٩

على الأرض..أم فوق السحاب ؟

يوم جديد
وأود أن أحيا بفكرة شاعر
فأرى الوجود يضيق عن أحلامي
شعر..أبي القاسم الشابي
قصيدة..قيود الأحلام
يقول ﺇبراهيم ناجي :
لست أنساك وقد علمتني
كيف يحيا رجل فوق الحياة
ويقول نزار قباني :
وأشعر أني أؤسس شيئا
وأشعر حين أحبك أني
أغير عصري
ويبدو في هذا الكلمات الفارق بين المنهج الذي يتبعه كلا الشاعرين في أشعار الحب التي أبدعها كل منهما ، ناجي في النصف الأول من القرن الفائت ، ونزار في نصفه الثاني .
يتحدث ناجي عن حبيبة هي أقرب الى التقديس ، وصفها مثالي تماما خال من أي نقص بشري ..يحدثها وهو ينظر الى أعلى ..الى السماء..
أنت يا معجزة الحسن ملك
كل لفظ منك شعر قدسيّ
ويقول :
قدماك ما انتقلا على درجِ
حاشاك بل خطرا على ثبجِ
كسفينة خفت على اللججِ
نشوى بما حملت من الفرجِ
تأمل هذا الوصف في قصيدة (الخريف)
أي سر فيك اني لست أدري
كل ما فيك من الأسرار يغري
خطر ينساب من مفتر ثغر
فتنة تعصف من لفتة نحر
قدر ينسج من خصلة شعر
زورق يسبح في موجة عطر
في عباب غامض التيار يجري
واصلا ما بين عينيك وعمري
لا يصف ناجي ما تراه عيناه ، أو لا يعطي المادة المحسوسة اعتبارا قدر ما يعطي خياله وروحه التي تنشد الجمال المطلق ..
مكان اللقاء عند ناجي هو دائما الطبيعة ..الخمائل والشجر والماء الرقراق
لك في خيالي روضة فينانة ﹼ
غنّى على أغصانها شاديها
ويقول في (الأطلال )
يا حبيبا زرت يوما أيكهﹸ
طائر الشوق أغني ألمي
تأمله وهو يتحدث عن طريق ليس فيه ﺇلا هو ومن يحب :
ومشينا في طريق مقمرﹴ
تثب الفرحة فيه قبلنا
وتطلعنا ﺇلى أنجمه
فتهاوين وأصبحن لنا
وضحكنا ضحك طفلين معـﴼ
وعدونا فسبقنا ظلنا !
وفي جنح الليل الساكن الوديع ..
يا لها من حقبة كانت على
قصر فيها كـﺂماد فساحﹾ
نتمنى كلما امتدت بنا
أن يظل الليل مجهول الصباحﹾ !
ويقول في (الوداع) :
يقظة طاحت بأحلام الكرى
وتولى الليل والليل صديقﹾ
هذه الصورة السامية للحبيبة ، يقابلها شعور باستحالة امتلاكها ، فالبشري الضعيف لا يمكنه أن يصل ﺇلى الملك النوراني البعيد ، تأمل قوله في قصيدة (الغد) :
يا جنان الخلد قدمت اعتذاري
ﺇذ يطوف الخلد سقمي ودماري
أيها اﻵمر في ملك الهوى
اعف عن لهفة روحي وأواري
أشتهي ضمك حتى أشتفي
فكأني ظامئ آخذ ثاري
غير أني كلما امتدت يدي
لعناق ..خفت أن تؤذيك ناري !
ولذلك فاللقاء بينهما لقاء خاطف كالحلم ..لا يلبث أن ينتهي ويخلف الشاعر لى هجر طويل ومعاناة طويلة ..
حلم كما لمع الشهاب توارى
سدلت عليه يد الزمان ستارا
وحبيس شجو في دمي أطلقته
متدفقا ودعوته أشعارا
ويقول في (الخريف) :
أخيالا كان هذا كله ؟
ذلك الجسر الذي كنا عليه
والمصابيح التي في جانبيه
ذلك النيل وما في شاطئيه
وشعاع طوفت في مائه
وظلال رسبت في ضفتيه
وحبيب وادع في ساعدي
ووعود نلتها من شفتيه !

مثالي في حبه تماما ، لا يتحول عن الاخلاص مهما يكن ، وكثيرا ما يعتبر هذا الأخلاص قيدا لا يمكنه الفرار منه :
لا أنت نائية ولا أنا نائي
ﺇني لديك مقيد بوفائي
.......................
لم أقيدك بشيء في الهوى
أنت من حبي ومن وجدي طليقﹾ
الهوى الخالص قيد وحده
رب حر وهو في قيد وثيقﹾ
بل هو يتمنى العودة ﺇليه لو ابتعد
كم تقلبت على خنجره
لا الهوى مال ولا الجفن غفا
وﺇذا القلب على غفرانه
كلما غاربه النصل ..عفا
حتى بعد الفراق لا تجده الا فيما ندر يثور أو يسخط ، بل يحمل الحب والامتنان ..يتضح ذلك في بيته بقصيدة (شفاعة)
لا تنكرن الشمس عند غروبها
أوما نعمت بدفئها وظلالها ؟

هو ﺇذن يخلق عالما مثاليا تماما..حبيبة ملائكية ، ومحب مخلص لا يتحول عن الاخلاص ، ولقاء في أحضان الطبيعة الخلابة..ولذا تجد شعره صافيا موسيقاه رائقة وجمله سلسة يزينها حسن التقسيم وأبحره رقيقة كالرمل والرجز ، هذه النظرة ، وهذا السمو فوق الواقع العادي بتفاصيله ومتاعبه وكل صور القبح التي لا يخلو منها يجعل الحب في شعر ناجي تحليقا روحيا لا تطاله رغبات الجسد
وتلاشت واختفت أجسادنا
واعتنقنا في الدجى روحا بروح
بل يمنحه سموا فوق البشرية نفسها ..تأمل هذا البيت الرائع من الأطلال الذي لم تغنه (أم كلثوم)
ومن الشوق رسول بيننا
ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا فانتفضنا لحظة
لغبار آدمي مسنا !
فوق عالم البشر بأكمله..
لست أنساك وقد علمتني
كيف يحيا رجل فوق الحياة !
*****
عند الحديث عن نزار قباني فالوضع يختلف ، فنحن أمام شاعر بدأ منذ ديوانه الأول بلغة مختلفة عن السائد ، وأدهش الكل بمفردات مستقاة من الحياة اليومية وبقصائد بعناوين (تليفون) و(أثواب) ، هو دائما يصف ما تراه العين ، يصف شيئا حقيقيا لكنه يغلفه باحساسه الخاص وخياله ..
شال الكشمير على كتفيك ..
يرق حديقة ريحان ِ
يدك الممدودة فوق يدي
أعظم من كل التيجان ِ
ويقول :
ﺇذا جئتني ذات يوم بثوب ﹴ
كعشب البحيرات أخضر أخضرﹾ
وشعرك ملقى على كتفيك
كبحر..كأبعاد ليل مبعثر ﹾ
نزار يعيش عالما واقعيا ، فهو يتحدث ﺇلى حبيبته عبر الهاتف ويجلس معها بالمقهى ويقرأ معها الشعر . تأمل حديثه المتكرر عن المقهى ..
دخلت اليوم للمقهى
وقد قررت أن أنسى علاقتنا
وأدفن كل أحزاني
وحين طلبت فنجانا من القهوه
خرجت كوردة بيضاء
من أعماق فنجاني
..............................
أجلس في المقهى منتظرﴽ
أن تأتي سيدتي الحلوه
أبتاع الصحف اليوميه
أفعل أشياء طفوليه

يقول في (بعد العاصفة) :
اني أحبك كيف يمكنني
أن أشعل التاريخ نيرانا
وبه معابدنا..جرائدنا
أقداح قهوتنا..زوايانا

وفي (ماذا أقول له ؟)
رباه أشياؤه الصغرى تعذبني
فكيف أنجو من الأشياء رباهﹸ
هنا جريدته في الركن مهملة
هنا كتاب معا كنا قرأناهﹸ
على المقاعد بعض من سجائره
وفي الزوايا بقايا من بقاياهﹸ

وفي الوقت الذي يبدو فيه ناجي ضعيفا أمام حبيبة مقدسة ، فنزار يجعل نفسه قويا معتزا بنفسه وبشعره ..فهو يقول متحديا من ينافسه في العشق :
أتحداهم جميعا
أن يخطوا لك مكتوب هوى
كمكاتيب غرامي
أو يجيئوك على كثرتهم
بحروف كحروفي
وكلام ككلامي
ويقول:
كتبت بالضوء عن عينيك هل أحد
سواي بالضوء عن عينيك قد كتبا ؟
وكنت مجهولة حتى أتيت أنا
أرمي على صدرك الأفلاك والشهبا
بل يزيد أن يفخر بحبيبته أيضا ، ويرفعها – معه – الى السماء :
يا التي من وجهها
تسقط أقمار الذهب
يا التي من صوتها
يبدأ تاريخ الأدب
يا التي تمشي
ويمشي خلفها حقل سنابل
وفي قصيدة (وقبلك كل النساء افتراض )
وقبلك ما كان للبحر اسم
ولا كان للورد اسم
ولا كان للشمس اسم
ولا كان مرعى
ولا كان عشبﹸ
وقبلك كل النساء افتراض
وكل القصائد كذب ﹸ
وتمثل الطبيعة جزءا مهما من شعر نزار قباني ،لكنها ليست الطبيعة الحالمة التي يرسمها ناجي من خياله ويهرب اليها من واقع الحياة ، بل هو يصف الطبيعة التي تراها عيناه ، في دمشق ، وفي بيروت ، وفيﺇسبانيا ، وأينما ذهب ، يحكي عن الشجرة الضاربة جذورها في بيته القديم بدمشق ، وعن البحر الذي يجلس أمامه في بيروت . يقول في (حبك طير أخضر):
حبك ينمو وحده
كما الحقول تزهرﹸ
كما على أبوابنا
ينمو الشقيق الأحمرﹸ
كما على السفوح
ينمو اللوز والصنوبرﹸ
كما بقلب الخوخ
يجري السكرﹸ
وفي (مع بيروتية)
بيروت تغيب بأكملها
رملا..وسماء..وبيوتا
تحت الجفنين المنسبلينﹾ
يصف نزار قباني ساعة الفراق بشكل غارق في واقعيته في قصيدة (ألا تجلسين قليلا ؟)
ألا تجلسين قليلا ؟
ألا تجلسين ؟
فان القضية أكبر منك
وأكبر مني
كما تعلمين
....................
ألا تجلسين لخمس دقائق أخرى
ففي القلب شيء كثير
وحزن كثير
وليس من السهل قتل العواطف في لحظات ﹾ
والقاء حبك في سلة المهملاتﹾ
فان تراثا من الحب والشعر والحزن
والخبز والملح والتبغ والذكرياتﹾ
يحاصرنا من جميع الجهاتﹾ
هذا التركيز على تفاصيل الواقع لا يجعله يسقط في الركاكة أو الابتذال ، ولكنه يأخذ المحسوسات ليمنحها من شاعريته ما يرتقي بها الى عالم الخيال والحلم ، فنجان القهوة لا يتوقف على كونه عادة يومية لكنه قد يقرأ ويبين المستقبل الخفي أو يبين أعماق النفس ، كما في (قارئة الفنجان) ، وكما يقول في (مع بيروتية):
المطعم أصبح مهجورا.
وأنا أتأمل فنجاني
ماذا سيكون بفنجاني
غير الأمطار ..وغير الريح
وغير طيور الأحزان ِ
ويتحدث عن حيرة التفكير في هدية عيد الميلاد ليرتفع بقيمة الشعر ..
في عيد ميلادك العشرين يا قمري
فكرت..فكرت في ما سوف أهديهِ
كل الخيارات تبدو لي محددة
يا من لعينيك كل العمر أعطيه
فكيف يفرح ﺇنسان حبيبته
ويكشف القلب عن أحلى أمانيه
الورد ؟ أصبح تقليدا اضيق به
والعطر ؟ لا امرأة الا وتقنيه
لذا سأرسل يوم العيد سيدتي
كتاب شعر فأرجو أن تحبيه

ومع نهاية العلاقة فقد يتحول الى الهجوم أو الثورة ، وتتحول رقته الى عنف بالغ :
أبعدي الوجه الذي أكرهه
أنت عندي في عداد الميتين
وفي قصيدته (النقاط على الحروف)
انزعي عنك الثياب المسرحيه
وأجيبي
من بنا كان الجبانا ؟
من هو المسئول عن موت هوانا ؟
من بنا قد باع للثاني القصور الورقيه ﹾ؟
من هو القاتل فينا..والضحيه ؟
من ترى أصبح منا بهلوانا
بين يوم وعشيهﹾ ؟
هو ﺇذن بشر يغضب ويثور ، بعيد عن المثالية أو الملائكية ، بعيد أيضا عن فكرة الحب العذري ، فالوصف الجسدي يتواجد كثيرا في أشعاره ..
لم تبق زاوية بجسم جميلة
ﺇلا ومرت فوقها عرباتي
لكن نظرته للجنس ترتفع عن مجرد ﺇشباع الغريزة ، يراه تتويجا للحب ، وحالة من الامتزاج والتوحد بين المحبين ..فهو يقول في قصيدة (الدخول ﺇلى البحر)
حدثت تجربة الحب أخيرا
حدثت من غير ﺇرهاب ولا قسر
فأعطيت ﹸوأعطيت ﹺ
وكنا عادلين ﹾ
حدثت في منتهى اليسر
كما يكتب المرء بماء الياسمين
ويتضح ذلك أكثر وأكثر في قوله :
فالجنس في تصوري
حكاية انسجامِ
كالنحت..كالتصوير ..كالكتابهﹾ
وجسمك النقي كالقشطة والرخام ِ
لا يحسن الكتابهﹾ
ويتحدث عن فقدان اللذة معناها في غياب الحب في ختام قصيدة (2000 تحت الصفر )
طلع الصباح وأنت جالسة
على طرف السرير ﹾ
وأنا أفتش تحت سطح الثلج
عن حبي الكبير ﹾ
طلع الصباح ولم أجد
حبي الكبير ولا الصغير ﹾ
هو في حبه بشر كسواه ، يعشق ويعتب ، يحنو ويثور ، يشبع غرائزه ، يصنع رومانسيته من الأشياء الصغيرة المحيطة به ، وينشد للحب وللجمال .
هكذا يبدو طريق اثنين من أهم شعراء الحب في القرن العشرين ، واحد يصنع حبه على الأرض ، واﻵخر يحلق مع أحلامه فوق السحاب .

هناك ٤ تعليقات:

يا مراكبي يقول...

ياله من بحث رائع .. مجهود أكثر من رائع .. قد نختلف في بعض الآراء بخصوص الشاعرين الكبيرين لكني لا أغفل أبدا هذا المجهود المبذول في هذا الموضوع القيم

أحمد فياض يقول...

سعيد بوجودك جدا أخي العزيز..
وأشكرك على القراءة والرأي..
تحياتي

إيمان عزمي يقول...

مقال رائع أخى أحمد لم أقرأ لك منذ فترة طويلة لانشغالي لكني سعدت كثيرا بما قرأت

أحمد فياض يقول...

صمت المكان * صخب الكلام
كيف حالك أختي العزيزة؟
أشكر رأيك في المقال..وأرجو أن أقرأ جديدا لك في القريب
تحياتي