واﻵن أجري وراء العمر منتظرا
ما لا يجيء.. كأن العمر ما كانا !
شعر..فاروق جويدة
قصيدة وديوان..كأن العمر ما كانا
1- توقف ونظرة للوراء..
ها هو يعاود الاتصال مرة أخرى .. لن أرد ، وبعد أن تنتهي المكالمة سأغلق الهاتف نهائيا . لا فلأرد عليه حتى لا يساورهم القلق عليّ ، فلقد تركتهم فجأة ولم أخبرهم بشيء ..يسكت الهاتف . سأحدثه أنا لاحقا ، وأقول له ﺇنني عدت لأمر عاجل أو أن والدتي طلبت مني الحضور . لا سأقول له صراحة ﺇنني شعرت بالضيق وأطلب منه أن يتركني على راحتي ، وسوف يتفهم الموقف .. صحيح أنني من طلبت منهم أن نذهب سوية للمصيف وألححت عليهم بالمجيء رغم مشاغلهم لكنني لا أستطيع أن أستمر ..فالملل الذي ذهبت خصيصا من أجل التخلص منه يكاد يقتلني ..الأيام تشبه بعضها تماما منذ أن تركت العمل بالمصنع ، ولكنها كانت متشابهة أيضا وأنا أعمل به ! تعاودني الحيرة كلما فكرت في الموضوع ، فهل كان الأفضل أن أستمر بدل أن أبقى عاطلا ؟ أم أنني أصبت بترك وظيفة لا علاقة لها بما عكفت على دراسته أربع سنوات بالجامعة ثم سنتين في تحضير الماجستير ؟ لكن أين أجد عملا في مجال تخصصي العلمي وهذه الأبحاث غير متوافرة بالبلاد ولا تلقى اهتمام أحد ؟ فـﺈما أن أسافر للخارج أو أنسى كل ما تعلمته أو أنتظر معجزة تحدث للبلد بأكمله ، لكنني لا أستطيع السفر بسبب والدتي ، فلا يمكن أن أتركها وحدها أو أن آخذها معي – في هذا العمر- ﺇلى بلد مجهول أواجه ظروفا مجهولة . لا ليس هذا السبب الوحيد ، فهناك حاجز بيني وبين السفر.. أشعر أنني لو سافرت ونجحت فلن أكون أنا من نجح ، وﺇنما شخص آخر غريب عني وسأحاول حينها البحث عن نفسي فلا أجدها ، ﺇذا كنت أضل عن نفسي وأنا على الأرض التي نشأت عليها وبين الناس الذين أعرفهم ويعرفونني فهل سأجدها مع الغرباء ؟..لا أعرف تحديدا متى وصلت الى كل هذا القنوط ، فقد كنت أيام الدراسة سعيدا أو لم أكن أفكر في كل هذا ..أبدو كمن يسير بطريق وأوغل فيه ثم نسي ﺇلى أين كان ذاهبا في الأصل ، بل وأين كانت البداية ؟
اندهشت أمي لعودتي المفاجئة وتركي لأصدقائي . طمأنتها بأنني على ما يرام ولم يحدث مكروه ، فقط أصابني الملل فقررت العودة ، ولا أظنها اقتنعت لكنها قالت ضاحكة ﺇنني كنت أشعر بها ، فقد كانت تخطط لشراء أشياء كثيرة ولا تعرف كيف تذهب من دوني ..قلت :
لا مشكلة ..وقتي كله فارغ .
***
لا جدوى . يبدو أنني لن أقدر أن أنام بضع سويعات بعد الظهر ، فها هي ساعة تمر وأنا أتقلب على الفراش والنوم لا يزال بعيدا ، طوال حياتي لم أتعود على أن أنام في النهار ، ولكن ماذا أفضل من النوم يمكن أن يختصر الوقت ويريحني من اجترار أفكاري ؟
مازلت أعجب كيف لـ (صادق) أن يتركني وحيدة ويموت ؟ وهو الذي لم يكن – خلال سبعة وثلاثين عاما من زواجنا- يتخذ قرارا دون مشورتي أو يذهب ﺇلى مكان دون أن يخبرني مسبقا بوجهته ، ثم يأتي ﺇلى أهم وأخطر القرارات فيفاجئني به هكذا ! يرحل في الوقت الذي لم يعد لي فيه سواه ، حتى عيادتي أغلقتها منذ سنة بعد أن فقدت القدرة على العمل .. ما من أحد أراه اﻵن سوى وجهي المتعب في المرآة ولا أحدث سوى نفسي..نفسي أيضا لم تضن عليّ بالكلام وصارت تحيطني بشلال من الأفكار التي لا تنتهي ، وأجد كل السنوات التي عشتها كأنها لحظات من حلم خاطف ..مجرد لقطات تأتي ﺇلى ذاكرتي وتمر مسرعة دون أن أتحقق منها ..دون أن أعرف ﺇلى أين سيوصلني هذا الطريق الطويل . هذا العمر كله مع زوج مخلص ينتهي في لحظة ..نصف ساعة فقط ما بين شعوره بالألم في صدره وبين ﺇغلاق عينيه الى الأبد . كيف يمكن أن تكون حقيقية تلك الحياة الحافلة مادامت تنتهي بهذه البساطة ؟
قضيت أيامي كلها أتابع النساء الحوامل ، أشاهد الأجنة في شاشة الأشعة ، وأتابع مراحل نموهم حتى أخرجهم من أرحام أمهاتهم وأسمع صرخاتهم الأولى ، لكن رحمي أبى أن يحمل جنينا، ولم يستطع الطب الذي تعلمته وأفنيت نفسي فيه أن يساعدني ، حتى أقعدني ضعف المشيب فأغلقت عيادتي وتوقفت عن العمل . بالأمس مررت عليها ونظرت لها من بعيد .. كل شيء في الشارع والبناية طبيعي تماما ، ولا يبدو أن أحدا تأثر بـﺈغلاقها ..أو كأنها لم تكن مفتوحة من قبل ..
ﺇذن فلأنم وقتا أطول ، أو أقرأ ، أو أشاهد التلفاز وأجد العالم كله يتحرك أمامي على الشاشة ، حتى لو كنت أنا أكتفي بمشاهدته من الخارج ، وحتى لو كانت هذه الدراما التي أتابعها ليست سوى وهم يصنعه ممثلون أمام العدسات ويتقاضون عليه أموالا ..الغريب أنه حتى هذا العالم ينتهي كله بضغطة زر !
***
2- سير بغير هدى..
كانت أمي تتحدث ﺇليّ كثيرا بينما كنت أغلب الوقت شاردا ، أكتفي بين حين وآخر بأن أرد باقتضاب أو أهز رأسي ثم أعاود النظر ﺇلى الطريق أمامي . تنقلنا بين أكثر من مكان حيث اشترت نظارة أخرى خلاف نظارتها التي كسرت ، وبعض أغراض للبيت ، ولوحة زيتية من تلك اللوحات التي لا أعرف لماذا تحب اقتناءها ، وكدنا – بعد أن لم يعد بالسيارة مكان لشيء جديد – أن نعود للبيت ، لولا أن قلت لها ﺇننا تعبنا كثيرا من التسوق ولا يصح أن ترهق نفسها في الطبخ بعد ذلك ، وتوقفت بالسيارة أمام أحد المطاعم .
مرت الدقائق بطيئة ونحن في انتظار الطعام ، واصلت فيها شرودي مع دوائر الأفكار المفرغة حتى انتبهت على صوت أمي تقول :
حسام ..هل تعرف هذه المرأة ؟
***
أصبحت أخرج كثيرا ، أخترع أسبابا لأغادر البيت ، مرة لزيارة ﺇحدى صديقاتي ، أو لزيارة أخي وقضاء بعض الوقت مع أبنائه، ومرات للتسوق وشراء لوازمي ، وﺇن لم تعد كثيرة بعدما صرت أعيش بمفردي . قررت اليوم أن أسير ﺇلى مطعم قريب أتناول فيه الغداء ، مع أنني لا أحب أكل المطاعم لكنني في حاجة ﺇلى التغيير ..لم يكن الطعام ممتازا لكن لا بأس به والمكان جديد ذو ألوان مبهجة وبه رواد كثر ، كان حديثهم يصنع جلبة ويعطي المكان روحا . لم أجد بنفسي قوة على السير بعد أن خرجت فوقفت أنتظر سيارة أجرة تقلني ﺇلى البيت حتى وجدت شابا يتقدم مني ويلقي عليّ التحية ، اندهشت أنه يعرفني .
***
3-أضواء في الأفق..
كانت تشير ﺇلى امرأة مسنة تكاد تغادر المطعم .
قلت : لا أعرفها .
قالت وهي تبتسم ابتسامة واسعة وعيناها مليئتان بالدهشة :
ﺇنها د.سامية القاضي ..الطبيبة التي أشرفت على ولادتي ﺇياك.
بدا أنها تعود ﺇلى سنوات مضت . نظرت لها ذاهلا للحظة بعدها وقفت وتحركت بسرعة في اتجاه المرأة ..لكنني توقفت ..ترى ماذا عساي أن أقول لها ؟ لا أعرف..لكنها فرصة ينبغي ألا أضيعها ، حدث مدهش لا يشبه غيره ..ربما خيط بداية أيضا ! فقد كانت شاهدة على أول لحظة لي في هذه الحياة ..كانت قد خرجت في لحظات ترددي فخرجت لأجدها واقفة . شعرها الأشيب ورداؤها الهادئ الأنيق منحاني بعضا من الارتياح لها وتشجعت على الاقتراب :
-مساء الخير.
*مساء النور.
-د.سامية ..أليس كذلك ؟
قالت بدهشة : بلى .
قلت مبتسما:
-أنت لا تعرفينني لكنك أثرت كثيرا في حياتي ، فقد ولدت وجئت ﺇلى الدنيا على يديك .
تغيرت نظرتها .. بدت مستغربة أو شاردة ..قالت بعد لحظة :
*ما اسمك يا بني ؟
- حسام..حسام رأفت .
لم أدر ماذا أقول ..هممت أن أسألها عن لحظة البداية ..لكن كيف أقول هذا ؟ قلت بتلعثم :
-هل كان مجيئي متعسرا ؟ أقصد.. كيف كانت اللحظة الأولى ؟
لم تجب ..لا أظنها فهمت ..ربما أنا نفسي لا أفهم ..أضفت :
-أنا سعيد جدا برؤيتك ، وأحب أن ..أن أشكرك .
مدت يدها تصافحني وشدت على يدي وتركتها وقد أشرق وجهها بابتسامة ..ابتسامة طيبة آسرة ..تشبه ابتسامة أمي كثيرا ..
كلما تذكرت أن حديثي معها كان سببا في هذه الابتسامة العذبة ، أو رأيتها على وجه أمي..ابتهجت.
***
لم يكن وجهه مألوفا لي ..قال:
-لقد أثرت كثيرا في حياتي..فخروجي ﺇلى الدنيا جاء على يديك .
هل يمكن هذا ؟ الشاب يبدو في منتصف العشرينات ، وأنا أعمل منذ ما يقرب من أربعين عاما ..لم لا ؟ تأملته ..شاب قوي ومهذب ..لا بد أنه قادر على صنع طريقه في الحياة ، ولا بد أن أمه التي تعبت في ولادته تفخر به اﻵن ..يقول ﺇنه جاء على يديّ..يديّ اللتين أصابتهما الرعشة وتجعد جلدهما ..معقول ؟اسمه حسام .. قال لي شيئا لم أنتبه ﺇليه ثم صافحني ..كان ممتنا..ثم ودعته وتابعته عيناي يدخل ﺇلى المطعم .
كلما أفكر كم واحدا جاءت به هاتان اليدان المرتعشتان..أطمئن.
ها هو يعاود الاتصال مرة أخرى .. لن أرد ، وبعد أن تنتهي المكالمة سأغلق الهاتف نهائيا . لا فلأرد عليه حتى لا يساورهم القلق عليّ ، فلقد تركتهم فجأة ولم أخبرهم بشيء ..يسكت الهاتف . سأحدثه أنا لاحقا ، وأقول له ﺇنني عدت لأمر عاجل أو أن والدتي طلبت مني الحضور . لا سأقول له صراحة ﺇنني شعرت بالضيق وأطلب منه أن يتركني على راحتي ، وسوف يتفهم الموقف .. صحيح أنني من طلبت منهم أن نذهب سوية للمصيف وألححت عليهم بالمجيء رغم مشاغلهم لكنني لا أستطيع أن أستمر ..فالملل الذي ذهبت خصيصا من أجل التخلص منه يكاد يقتلني ..الأيام تشبه بعضها تماما منذ أن تركت العمل بالمصنع ، ولكنها كانت متشابهة أيضا وأنا أعمل به ! تعاودني الحيرة كلما فكرت في الموضوع ، فهل كان الأفضل أن أستمر بدل أن أبقى عاطلا ؟ أم أنني أصبت بترك وظيفة لا علاقة لها بما عكفت على دراسته أربع سنوات بالجامعة ثم سنتين في تحضير الماجستير ؟ لكن أين أجد عملا في مجال تخصصي العلمي وهذه الأبحاث غير متوافرة بالبلاد ولا تلقى اهتمام أحد ؟ فـﺈما أن أسافر للخارج أو أنسى كل ما تعلمته أو أنتظر معجزة تحدث للبلد بأكمله ، لكنني لا أستطيع السفر بسبب والدتي ، فلا يمكن أن أتركها وحدها أو أن آخذها معي – في هذا العمر- ﺇلى بلد مجهول أواجه ظروفا مجهولة . لا ليس هذا السبب الوحيد ، فهناك حاجز بيني وبين السفر.. أشعر أنني لو سافرت ونجحت فلن أكون أنا من نجح ، وﺇنما شخص آخر غريب عني وسأحاول حينها البحث عن نفسي فلا أجدها ، ﺇذا كنت أضل عن نفسي وأنا على الأرض التي نشأت عليها وبين الناس الذين أعرفهم ويعرفونني فهل سأجدها مع الغرباء ؟..لا أعرف تحديدا متى وصلت الى كل هذا القنوط ، فقد كنت أيام الدراسة سعيدا أو لم أكن أفكر في كل هذا ..أبدو كمن يسير بطريق وأوغل فيه ثم نسي ﺇلى أين كان ذاهبا في الأصل ، بل وأين كانت البداية ؟
اندهشت أمي لعودتي المفاجئة وتركي لأصدقائي . طمأنتها بأنني على ما يرام ولم يحدث مكروه ، فقط أصابني الملل فقررت العودة ، ولا أظنها اقتنعت لكنها قالت ضاحكة ﺇنني كنت أشعر بها ، فقد كانت تخطط لشراء أشياء كثيرة ولا تعرف كيف تذهب من دوني ..قلت :
لا مشكلة ..وقتي كله فارغ .
***
لا جدوى . يبدو أنني لن أقدر أن أنام بضع سويعات بعد الظهر ، فها هي ساعة تمر وأنا أتقلب على الفراش والنوم لا يزال بعيدا ، طوال حياتي لم أتعود على أن أنام في النهار ، ولكن ماذا أفضل من النوم يمكن أن يختصر الوقت ويريحني من اجترار أفكاري ؟
مازلت أعجب كيف لـ (صادق) أن يتركني وحيدة ويموت ؟ وهو الذي لم يكن – خلال سبعة وثلاثين عاما من زواجنا- يتخذ قرارا دون مشورتي أو يذهب ﺇلى مكان دون أن يخبرني مسبقا بوجهته ، ثم يأتي ﺇلى أهم وأخطر القرارات فيفاجئني به هكذا ! يرحل في الوقت الذي لم يعد لي فيه سواه ، حتى عيادتي أغلقتها منذ سنة بعد أن فقدت القدرة على العمل .. ما من أحد أراه اﻵن سوى وجهي المتعب في المرآة ولا أحدث سوى نفسي..نفسي أيضا لم تضن عليّ بالكلام وصارت تحيطني بشلال من الأفكار التي لا تنتهي ، وأجد كل السنوات التي عشتها كأنها لحظات من حلم خاطف ..مجرد لقطات تأتي ﺇلى ذاكرتي وتمر مسرعة دون أن أتحقق منها ..دون أن أعرف ﺇلى أين سيوصلني هذا الطريق الطويل . هذا العمر كله مع زوج مخلص ينتهي في لحظة ..نصف ساعة فقط ما بين شعوره بالألم في صدره وبين ﺇغلاق عينيه الى الأبد . كيف يمكن أن تكون حقيقية تلك الحياة الحافلة مادامت تنتهي بهذه البساطة ؟
قضيت أيامي كلها أتابع النساء الحوامل ، أشاهد الأجنة في شاشة الأشعة ، وأتابع مراحل نموهم حتى أخرجهم من أرحام أمهاتهم وأسمع صرخاتهم الأولى ، لكن رحمي أبى أن يحمل جنينا، ولم يستطع الطب الذي تعلمته وأفنيت نفسي فيه أن يساعدني ، حتى أقعدني ضعف المشيب فأغلقت عيادتي وتوقفت عن العمل . بالأمس مررت عليها ونظرت لها من بعيد .. كل شيء في الشارع والبناية طبيعي تماما ، ولا يبدو أن أحدا تأثر بـﺈغلاقها ..أو كأنها لم تكن مفتوحة من قبل ..
ﺇذن فلأنم وقتا أطول ، أو أقرأ ، أو أشاهد التلفاز وأجد العالم كله يتحرك أمامي على الشاشة ، حتى لو كنت أنا أكتفي بمشاهدته من الخارج ، وحتى لو كانت هذه الدراما التي أتابعها ليست سوى وهم يصنعه ممثلون أمام العدسات ويتقاضون عليه أموالا ..الغريب أنه حتى هذا العالم ينتهي كله بضغطة زر !
***
2- سير بغير هدى..
كانت أمي تتحدث ﺇليّ كثيرا بينما كنت أغلب الوقت شاردا ، أكتفي بين حين وآخر بأن أرد باقتضاب أو أهز رأسي ثم أعاود النظر ﺇلى الطريق أمامي . تنقلنا بين أكثر من مكان حيث اشترت نظارة أخرى خلاف نظارتها التي كسرت ، وبعض أغراض للبيت ، ولوحة زيتية من تلك اللوحات التي لا أعرف لماذا تحب اقتناءها ، وكدنا – بعد أن لم يعد بالسيارة مكان لشيء جديد – أن نعود للبيت ، لولا أن قلت لها ﺇننا تعبنا كثيرا من التسوق ولا يصح أن ترهق نفسها في الطبخ بعد ذلك ، وتوقفت بالسيارة أمام أحد المطاعم .
مرت الدقائق بطيئة ونحن في انتظار الطعام ، واصلت فيها شرودي مع دوائر الأفكار المفرغة حتى انتبهت على صوت أمي تقول :
حسام ..هل تعرف هذه المرأة ؟
***
أصبحت أخرج كثيرا ، أخترع أسبابا لأغادر البيت ، مرة لزيارة ﺇحدى صديقاتي ، أو لزيارة أخي وقضاء بعض الوقت مع أبنائه، ومرات للتسوق وشراء لوازمي ، وﺇن لم تعد كثيرة بعدما صرت أعيش بمفردي . قررت اليوم أن أسير ﺇلى مطعم قريب أتناول فيه الغداء ، مع أنني لا أحب أكل المطاعم لكنني في حاجة ﺇلى التغيير ..لم يكن الطعام ممتازا لكن لا بأس به والمكان جديد ذو ألوان مبهجة وبه رواد كثر ، كان حديثهم يصنع جلبة ويعطي المكان روحا . لم أجد بنفسي قوة على السير بعد أن خرجت فوقفت أنتظر سيارة أجرة تقلني ﺇلى البيت حتى وجدت شابا يتقدم مني ويلقي عليّ التحية ، اندهشت أنه يعرفني .
***
3-أضواء في الأفق..
كانت تشير ﺇلى امرأة مسنة تكاد تغادر المطعم .
قلت : لا أعرفها .
قالت وهي تبتسم ابتسامة واسعة وعيناها مليئتان بالدهشة :
ﺇنها د.سامية القاضي ..الطبيبة التي أشرفت على ولادتي ﺇياك.
بدا أنها تعود ﺇلى سنوات مضت . نظرت لها ذاهلا للحظة بعدها وقفت وتحركت بسرعة في اتجاه المرأة ..لكنني توقفت ..ترى ماذا عساي أن أقول لها ؟ لا أعرف..لكنها فرصة ينبغي ألا أضيعها ، حدث مدهش لا يشبه غيره ..ربما خيط بداية أيضا ! فقد كانت شاهدة على أول لحظة لي في هذه الحياة ..كانت قد خرجت في لحظات ترددي فخرجت لأجدها واقفة . شعرها الأشيب ورداؤها الهادئ الأنيق منحاني بعضا من الارتياح لها وتشجعت على الاقتراب :
-مساء الخير.
*مساء النور.
-د.سامية ..أليس كذلك ؟
قالت بدهشة : بلى .
قلت مبتسما:
-أنت لا تعرفينني لكنك أثرت كثيرا في حياتي ، فقد ولدت وجئت ﺇلى الدنيا على يديك .
تغيرت نظرتها .. بدت مستغربة أو شاردة ..قالت بعد لحظة :
*ما اسمك يا بني ؟
- حسام..حسام رأفت .
لم أدر ماذا أقول ..هممت أن أسألها عن لحظة البداية ..لكن كيف أقول هذا ؟ قلت بتلعثم :
-هل كان مجيئي متعسرا ؟ أقصد.. كيف كانت اللحظة الأولى ؟
لم تجب ..لا أظنها فهمت ..ربما أنا نفسي لا أفهم ..أضفت :
-أنا سعيد جدا برؤيتك ، وأحب أن ..أن أشكرك .
مدت يدها تصافحني وشدت على يدي وتركتها وقد أشرق وجهها بابتسامة ..ابتسامة طيبة آسرة ..تشبه ابتسامة أمي كثيرا ..
كلما تذكرت أن حديثي معها كان سببا في هذه الابتسامة العذبة ، أو رأيتها على وجه أمي..ابتهجت.
***
لم يكن وجهه مألوفا لي ..قال:
-لقد أثرت كثيرا في حياتي..فخروجي ﺇلى الدنيا جاء على يديك .
هل يمكن هذا ؟ الشاب يبدو في منتصف العشرينات ، وأنا أعمل منذ ما يقرب من أربعين عاما ..لم لا ؟ تأملته ..شاب قوي ومهذب ..لا بد أنه قادر على صنع طريقه في الحياة ، ولا بد أن أمه التي تعبت في ولادته تفخر به اﻵن ..يقول ﺇنه جاء على يديّ..يديّ اللتين أصابتهما الرعشة وتجعد جلدهما ..معقول ؟اسمه حسام .. قال لي شيئا لم أنتبه ﺇليه ثم صافحني ..كان ممتنا..ثم ودعته وتابعته عيناي يدخل ﺇلى المطعم .
كلما أفكر كم واحدا جاءت به هاتان اليدان المرتعشتان..أطمئن.
هناك تعليقان (٢):
اعجبني اخي اسلوبك فى سر القصة و لن هناك خطأ لم تنتبه له و هو ذلك المقطع
"مرت الدقائق بطيئة ونحن في انتظار الطعام ، واصلت فيها شرودي مع دوائر الأفكار المفرغة حتى انتبهت على صوت أمي تقول :
حسام ..هل تعرف هذه المرأة ؟
***
"
فبالتاكيد لن يعرف تلك المرأة مادامت هي الطبيبه التى ولدته لذا من الافضل تغيير ذلك الجزء حتى لا يخل بسياق القصة
اعجبتني القصة كثيرا
عيد سعيد أخى
كل عام وأنت بخير يا صديقتي..
سعيد باعجابك ..
وبالنسبة لملاحظتك : الأم هنا تعرف طبعا أن (حسام) لا يعرف الطبيبة ..وهي تسأله فقط لتلفت انتباهه اليها وتثير فضوله .
تحياتي
إرسال تعليق