تسائلني : من أنت؟ وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر ؟
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
قتيلك قالت أيهم فهم كثر
شعر..أبي فراس الحمداني
عندما وصلت الى الموقف كانت التذاكر قد نفدت ، ورغم أنني وصلت قبل الموعد بما يزيد على ربع ساعة الا أن ذلك لم يفلح مع الزحام الشديد للمسافرين الى المدينة القريبة ، لعنت سوء حظي ولم أجد مفرﴽ من الركوب واقفا ؛ لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك فبين حين وآخر كانت الحافلة تتوقف في الطريق لتأخذ عددا من الركاب وتأتي الموجة الجديدة لأندفع على إثرها مع بقية الوقوف الى الخلف أو الى الأمام حتى استقر بي الحال بعد احدى الموجات واقفا – أو شبه واقف - في وسط الحافلة أجد بالكاد مكانا لقدميّ وبينما كنت أكتم زفراتي الحانقة والمتعبة وصلت الىّ من خلفي كلمات بصوت أنثوي رفيع ومرتفع بعض الشيء لفتاة قدّرت أنها في العشرين أو تقاربها تقول:
- كان مهندسا مدنيا .
ردت عليها أخرى بصوت هادئ :
* هل هو من أقاربكم ؟
- لا . هو من أصدقاء زوج (سلوى) ابنة خالتي ، رﺁني في زفافهما وأعجب بي وتحدث مع أبي بشأن الزواج .
* وبعد ؟
- لا شيء ..رفضت ، لا أريد أن أتزوج اﻵن ..أكمل دراستي أولا .
* لكنك كنت قد حدثتني مرة عن ضابط شرطة تقدم لطلب يدك ..
- نعم ..كان رائدا ..كان اسمه (مجدي عزت)
(ثم ندّ عنها صوت كأنه ضحكة مكتومة قبل أن تكمل)
ساق الى والدتى كل معارفنا كي أوافق عليه وحاولت هي وأبي كثيرا جدا أن يقنعاني بالموافقة..
* ولماذا أصررت على الرفض؟ هل كرهت منه شيئا ؟
- في الحقيقة كان حسن المظهر ووسيما وتبدو عليه النعمة وطيب الأصل ..لكنني كما قلت لك لا أتعجل الأمر ..ثم انني أستحق من هو أفضل .
***
أردت أن أستدير لأرى هذه الجميلة التي يطاردها الخطّاب لكن الحاجز المنيع من الركاب لم يمكننى من الرؤية فحاولت أن أتحرك للخلف قليلا فنظر لى الرجل الواقف الى جانبي باستياء- ويبدو أنني دست على قدمه- وقال :
الى أين تريد أن تذهب ؟
قلت بحرج :لا شيء
ثم أتى مدّ ﺁخر دفعني الى الأمام قليلا فغابت عني بقية الحديث ، ووقفت في ضجر لدقيقة حتى سمعت رنين هاتف محمول وبدأ أحد الركاب يتحدث:
- الحمد لله ..كيف الحال .. هل استيقظ من النوم ؟ ..وتناول طعامه أم لا ؟ .. ذهبت الى المدير وطلبت القرض ووعد أنه سيبذل ما بوسعه لكن الاجراءات تأخذ وقتا ..نعم قدمت له طلب الاجازة وأعطيتهم شهادة المستشفى .. قال لي ناظر المدرسة ان بوسعه أداء الامتحانات في المستشفى ولكن لا أظنه يكون قد تعافى من العملية ..صحيح يقوم سالما وليكن ما يكون ..أعطني اياه
( ثم أكمل بصوت أكثر رقة )
كيف حالك يا حبيبي اليوم ؟..أنا في الطريق اليك وسأحضر لك القطار الذي طلبته ..كن هادئا ولا تغضب أمك ..مع السلامة .
***
بدأ الأمر يستهويني وجعلني أتشاغل عن ألم الوقوف الطويل وملل الانتظار ، وبعد موجة جديدة وجدت نفسي في انتظار حوار جديد ولم يطل انتظاري كثيرا..
- صاحبك يغلي اﻵن .
قالها صوت غليظ لرجل يبدو في الثلاثينيات وأجابه صوت عميق لرجل آخر :
* عماد ؟ ماذا حدث له ؟
- طلبه المدير وخرج من غرفته شاحب الوجه كالأموات ..يبدو أنه أسمعه ما لم يسمع في حياته.
* ولماذا ؟
- المدير ثائر منذ أن سحبت شركة الملابس تعاقدها مع مصنعنا بعد أن تأخرنا في توريد طلبيتها .
* لكن التأخير لم يكن بسببه ، بل بسبب اﻹضراب الذي قام به العمال .
- أليس رئيس القسم ؟ هو اذن المسئول عن عماله .
ثم أضاف :
- لو أن هناك عدلا لكنت أنا رئيس القسم منذ زمن ..لكنك لم تسأل من الذي حرض العمال على الاضراب ..
( ثم سمعت صوت ضحك عال )
***
عندما وصلنا كان همي وأنا أغادر الحافلة أن أتفرس في ركابها لأتعرف هؤلاء الذين سمعت حكاياتهم ، بدأت أبحث أولا عن ذلك الرجل الناقم على زميله في العمل وعن رفيقه ، هل هو ذلك الأسمر البدين الذي يرتدي قميصا أبيض وسروالا أزرق ؟ أم هو ذو اللحية الصغيرة والشارب ونظارة الشمس ؟ هل هو واحد من هذين ؟
الأشقر الذي يحمل بيده حقيبة أم ذو الوجه القمحي المستدير والنظارة الطبية ؟ ما بالهم لا يتكلمون فلا أقدر أن أتعرف عليه من صوته ! فلأبحث اذن عن الرجل ذي الابن المريض ..واتتني رغبة في أن أصافحه وأتمنى لولده السلامة ..أيكون ذلك النحيل بالبذلة السوداء ؟ يبدو على وجهه الهم .. أم أنه الملتحي ذو السترة الداكنة والقميص الرمادي؟ لا تخلو ملامحه من الهم أيضا .. ما هذه الحيرة! فجأة لاحت لي فكرة وجدتها أفضل من كل ذلك ..أن أبحث عن الفتاة الجميلة ، درت بعيني بين الركاب الذين نزلوا من الحافلة وأشحت بوجهي عن المرأة العجوز التي تحمل حقيبة سوداء ، وجدت جماعة من أربع فتيات يحملن كتبا وأوراقا عرفت منها أنهن جامعيات ..هل تكون احداهن ؟ هل هي ذات الحجاب الرمادي والرداء الأسود الطويل ؟ أم البدينة ذات السروال الأسود والسترة الزرقاء ؟ ثمة فتاتان أخريان تتأبط كل منهما ذراع الأخرى ..عندما رأيتهن جميعا زادت خيبة أملي ..اذ لم تكن أي منهن جميلة ..
- كان مهندسا مدنيا .
ردت عليها أخرى بصوت هادئ :
* هل هو من أقاربكم ؟
- لا . هو من أصدقاء زوج (سلوى) ابنة خالتي ، رﺁني في زفافهما وأعجب بي وتحدث مع أبي بشأن الزواج .
* وبعد ؟
- لا شيء ..رفضت ، لا أريد أن أتزوج اﻵن ..أكمل دراستي أولا .
* لكنك كنت قد حدثتني مرة عن ضابط شرطة تقدم لطلب يدك ..
- نعم ..كان رائدا ..كان اسمه (مجدي عزت)
(ثم ندّ عنها صوت كأنه ضحكة مكتومة قبل أن تكمل)
ساق الى والدتى كل معارفنا كي أوافق عليه وحاولت هي وأبي كثيرا جدا أن يقنعاني بالموافقة..
* ولماذا أصررت على الرفض؟ هل كرهت منه شيئا ؟
- في الحقيقة كان حسن المظهر ووسيما وتبدو عليه النعمة وطيب الأصل ..لكنني كما قلت لك لا أتعجل الأمر ..ثم انني أستحق من هو أفضل .
***
أردت أن أستدير لأرى هذه الجميلة التي يطاردها الخطّاب لكن الحاجز المنيع من الركاب لم يمكننى من الرؤية فحاولت أن أتحرك للخلف قليلا فنظر لى الرجل الواقف الى جانبي باستياء- ويبدو أنني دست على قدمه- وقال :
الى أين تريد أن تذهب ؟
قلت بحرج :لا شيء
ثم أتى مدّ ﺁخر دفعني الى الأمام قليلا فغابت عني بقية الحديث ، ووقفت في ضجر لدقيقة حتى سمعت رنين هاتف محمول وبدأ أحد الركاب يتحدث:
- الحمد لله ..كيف الحال .. هل استيقظ من النوم ؟ ..وتناول طعامه أم لا ؟ .. ذهبت الى المدير وطلبت القرض ووعد أنه سيبذل ما بوسعه لكن الاجراءات تأخذ وقتا ..نعم قدمت له طلب الاجازة وأعطيتهم شهادة المستشفى .. قال لي ناظر المدرسة ان بوسعه أداء الامتحانات في المستشفى ولكن لا أظنه يكون قد تعافى من العملية ..صحيح يقوم سالما وليكن ما يكون ..أعطني اياه
( ثم أكمل بصوت أكثر رقة )
كيف حالك يا حبيبي اليوم ؟..أنا في الطريق اليك وسأحضر لك القطار الذي طلبته ..كن هادئا ولا تغضب أمك ..مع السلامة .
***
بدأ الأمر يستهويني وجعلني أتشاغل عن ألم الوقوف الطويل وملل الانتظار ، وبعد موجة جديدة وجدت نفسي في انتظار حوار جديد ولم يطل انتظاري كثيرا..
- صاحبك يغلي اﻵن .
قالها صوت غليظ لرجل يبدو في الثلاثينيات وأجابه صوت عميق لرجل آخر :
* عماد ؟ ماذا حدث له ؟
- طلبه المدير وخرج من غرفته شاحب الوجه كالأموات ..يبدو أنه أسمعه ما لم يسمع في حياته.
* ولماذا ؟
- المدير ثائر منذ أن سحبت شركة الملابس تعاقدها مع مصنعنا بعد أن تأخرنا في توريد طلبيتها .
* لكن التأخير لم يكن بسببه ، بل بسبب اﻹضراب الذي قام به العمال .
- أليس رئيس القسم ؟ هو اذن المسئول عن عماله .
ثم أضاف :
- لو أن هناك عدلا لكنت أنا رئيس القسم منذ زمن ..لكنك لم تسأل من الذي حرض العمال على الاضراب ..
( ثم سمعت صوت ضحك عال )
***
عندما وصلنا كان همي وأنا أغادر الحافلة أن أتفرس في ركابها لأتعرف هؤلاء الذين سمعت حكاياتهم ، بدأت أبحث أولا عن ذلك الرجل الناقم على زميله في العمل وعن رفيقه ، هل هو ذلك الأسمر البدين الذي يرتدي قميصا أبيض وسروالا أزرق ؟ أم هو ذو اللحية الصغيرة والشارب ونظارة الشمس ؟ هل هو واحد من هذين ؟
الأشقر الذي يحمل بيده حقيبة أم ذو الوجه القمحي المستدير والنظارة الطبية ؟ ما بالهم لا يتكلمون فلا أقدر أن أتعرف عليه من صوته ! فلأبحث اذن عن الرجل ذي الابن المريض ..واتتني رغبة في أن أصافحه وأتمنى لولده السلامة ..أيكون ذلك النحيل بالبذلة السوداء ؟ يبدو على وجهه الهم .. أم أنه الملتحي ذو السترة الداكنة والقميص الرمادي؟ لا تخلو ملامحه من الهم أيضا .. ما هذه الحيرة! فجأة لاحت لي فكرة وجدتها أفضل من كل ذلك ..أن أبحث عن الفتاة الجميلة ، درت بعيني بين الركاب الذين نزلوا من الحافلة وأشحت بوجهي عن المرأة العجوز التي تحمل حقيبة سوداء ، وجدت جماعة من أربع فتيات يحملن كتبا وأوراقا عرفت منها أنهن جامعيات ..هل تكون احداهن ؟ هل هي ذات الحجاب الرمادي والرداء الأسود الطويل ؟ أم البدينة ذات السروال الأسود والسترة الزرقاء ؟ ثمة فتاتان أخريان تتأبط كل منهما ذراع الأخرى ..عندما رأيتهن جميعا زادت خيبة أملي ..اذ لم تكن أي منهن جميلة ..
هناك تعليقان (٢):
لذيذة يا ابو حميد الفكرة جذيدة وجذابة ..
زرنـــى .. انتظرك ..
تعليق أخيرا ! أشكرك ياصلاح وسعيد أن الفكرة أعجبتك ..سأزورك قريبا.
إرسال تعليق