٧/١٢/٢٠١٠
هدية بمناسبة الانتخابات
تمر القطارات من قربنا
تمر الحضارات من فوقنا
تمر الزلازل من تحتنا
فلا نتأمل شيئا
ولا نتعلم شيئا
ولا نتذكر شيئا
ولا نتحمس حين مجيء الربيع
ولا نتأثر حين رحيل الشتاء
شعر..نزار قباني
قصيدة..لقد مر عشرون عاما علينا
ترى ونحن على هذه الحال من البراءة والسذاجة ، لو حدثتنا النفس الملعونة بالنزول من أبراج أفكارنا العاجية ، والجلوس تحت قبة البرلمان الذهبية ، ماذا كنا نخطب قائلين للناخبين ؟ ..
أما أنا فإني كنت أقول هكذا :
سادتي الناخبين !..
باسم (الديمقراطية) أتقدم إليكم ملتمسا عطفكم !..إني أحب الديمقراطية ، ومن ذا الذي لا يحب الديمقراطية ؟ ..تسألونني ما معنى هذه الكلمة التي تسمعونها هذه الأيام كثيرا ؟ ..تعريفها بسيط : " إن الديمقراطية هي أن رهطا من الجياع الحفاة يمنحون مرتبا شهريا قدره أربعون جنيها لرهط آخر من الثراة والعتاة ! "
لعل هذا المنطق يدهشكم ، ولكن تلك هي الحقيقة !..هنالك أعجب من ذلك ، فإن جوف الحقيقة مملوء دائما بالغرائب لمن أراد الغوص فيها !..إن بيننا - معشر المرشحين ، وبينكم معشر الناخبين - سوء تفاهم كبير ، فإننا نطلب إليكم أن تخدمونا وأنتم تحسبون أننا وجدنا كي نخدمكم ، أنتم تظنون (البرلمان) هو المكان الذي نتكلم فيه عنكم طول الوقت ، وعن جوعكم وفقركم وجهلكم ، ونبحث تحت قبته كل يوم عن وسائل رخائكم ورقيكم ، ونحن نرى في تلك القبة الذهبية شرفا ، لمن استطاع أن يقتنص تحتها مقعدا ، ونرى عضوية المجلس لقبا نتوج به أسماءنا ، ونزين به (بطاقاتنا) !..
إن عضوية البرلمان في نظرنا ليست إلا عربة (الرولزرويس) التي نرفع بها مركزنا الاجتماعي في أعين الشعب ، ونحن إذ ننفق المال في هذا السبيل إنما ننفقه ونحن معتقدون أننا نشتري به وظيفة أو لقبا أو مقاما ، فإذا ما ظفرنا بما نريد بفضل أصواتكم ووجدنا أيديكم العارية السمراء تحملنا إلى ذلك المكان ، فإننا نتربع فيه كالعرائس في (الفترينات) ، ومهما صحتم وناديتم وصرختم بعد ذلك فإننا لن نسمع أصواتكم ، لأن بيننا وبينكم حاجزا من زجاج ، ولن تستطيعوا أن تلمسونا أو تقربونا ، ولكنكم تستطيعون أن تشيروا بإصبعكم من خلف البلور ، فنحسب ذلك منكم إعجابا فنزداد صلفا وتيها !..
أيها الناخبون !..عجبا ‘ إني حقا لعلى غاية السذاجة إذ أفضي إليكم بكل هذا في خطبتي التي على أساسها أنتخب ..ما العمل الآن ؟..
أتنتخبونني برغم ذلك ؟..لعل صراحتي على الأقل تشفع !..
ملحوظة بسيطة : هذا المقال ليس لي ، وإنما هو لتوفيق الحكيم ، نقلته دون تغيير حرف واحد من كتابه (تحت شمس الفكر) ، الصادر سنة 1938 .
٢٦/١٠/٢٠١٠
يوميات (5) ..نغمة جديدة
أبحث عن مدينتي التي هجرتها
فلا أراها !
أبحث عن مدينتي
يا إرم العماد
يا إرم العماد
يا بلد الأوغاد والأمجاد
ردي إليّ صفحة الكتاب
وقدح القهوة واضطجاعتي الحميمه
فيرجع الصدى
كأنه اسطوانة قديمه
يا إرم العماد ..
يا إرم العماد ..
شعر..أمل دنقل
قصيدة..الهجرة إلى الداخل
ديوان..تعليق على ما حدث
صباح أربعاء ..عيني تتنقل ما بين العناوين ، ثم تمتد يدي بحركة آلية لتلتقط عدد الدستور الأسبوعي . لكن نغمة غريبة تسترعي الانتباه وتوقف مجرى الاعتياد الهادئ . شكل الصفحة الأولى مختلف . مقال إبراهيم عيسى غائب عنها . تأتي النغمات متلاحقة ومتسقة في طريقها : اسمه غائب عن الترويسة . العنوان الرئيسي يتحدث عن الأزمة . الصفحة الثالثة تأتي بحوار مطول مع رئيس مجلس الإدارة الجديد ينفي أي مشكلة ويقول إن عيسى مستمر ككاتب لكنه سيترك موقعه كرئيس تحرير . كان يمكن أن أصدق . لولا أن انتخابات الرئاسة تقترب .. لولا أن برنامج عيسى على المحطة الفضائية أوقف .. لولا أن عيسى من رؤساء التحرير القلائل الذين تماثل شهرتهم شهرة الجريدة أو تفوقها.. لولا أن المقال الذي يحتل المساحة أسفل حوار السيد البدوي لا يمكن أن تنكر فيه الشماتة والهجوم .
إلى أين تمضي النغمات الجديدة ؟ هل إلى دستور هادئة النبرة وديعة المعارضة كأخوات لها بدلا من تلك الصارخة متجاوزة الأسوار ؟
لا يزال المحررون رافضين للأمر والأزمة قائمة ، صحيح ما قالته الجريدة في تعقيبها إن التغيير سنة الحياة .. لكنني لا أفهم : لماذا إذن لا تتغير الأشياء التي نكرهها ؟
١٤/١٠/٢٠١٠
تفتت
هل تجالس نفسك كل مساء
وحيدا كحبة رمل ْ ؟
تمد يدا في الفراغ ِ
لتمسك حبة رمل ْ
وتلصق وجهك ، كفيك بالأرض ِ
تسمع صوت انفجار بعيد ْ ؟
شعر..فاروق شوشة
قصيدة ..وحيد كحبة رمل
ديوان..أحبك حتى البكاء
أتذكرها جالسة القرفصاء في ظل الشجرة الكبيرة . ضئيلة تحتها ولكن تجمعهما النضارة . ثم يتلاشى من ذهني الزمن ، فأحس بأنني في مقعدي هذا منذ الأزل وهذه العربات من حولي متراصة منذ آماد بعيدة . وجهي في المرآة الصغيرة يشبهني لكن كأنه ليس لي . قطرات العرق تتفصد على جبهته وتتجمع وتنساب ببطء . أتعجب : كيف لا تبخرها كل هذه السخونة ؟ أما طيف وجهها فثابت . عيناها مغمضتان وملامحها باهتة . لم يعد معنى من النظر إلى الساعة . أمامي من أحنى ظهره واستند بصدره إلى عجلة القيادة . عن يميني من أراح وجهه بين راحتيه ، وعن يساري من ينظر في ثبات وتأمل إلى لا شيء . الناظر من أعلى سيرى شكلا منبعجا تصنعه منمنمات متجاورة مختلفة الألوان لا تكاد تتحفز حتى تعود للتوقف . لكنه أبدا لن يراني . لن يستطيع أن يميزني وسط هذه الجموع المتشابهة .
طيف وجهها من جديد .. علب الدواء .. باب الغرفة .. الطرقة الضيقة تسلم إلى الدرج .. الشجرة العارية في اللوحة المعلقة على الجدار .. الثياب البيضاء ثم الزحام والضجيج والبوابة الكبيرة . هل يمكن أن تفتح عينيها من جديد أم ستبقى هكذا إلى الأبد ؟
صفق الصوت حاسما وقريبا ..قريبا إلى حد لا يمكن تجاهله . كسيرات الزجاج المتساقطة أمام عيني تؤكد أنه حقيقة لا وهم . كيف ألتصق بالمقعد ولا أجد بي أي رغبة في النزول والتفقد ؟ السائق الآخر أخرج رأسه من النافذة . نظر خلفه إلى الشظايا . نظر إليّ . في وجهه تعبير غريب . لا فيه غضب ، ولا فيه عدم اكتراث . ثم عاد ينظر أمامه ، وأحنى ظهره واستند بصدره إلى عجلة القيادة . هل كانت شجرة اللوحة بلا أوراق أم كانت هناك أوراق متساقطة بجوارها ؟ تطلعت كل العيون إلينا للحظات ، ثم أشاحت بعيدا ... ثم لم يكن شيء .
٩/٨/٢٠١٠
أطياف شجر ورضوى ..مرة أخرى
قالتها الطفلة باستغراب وغضب ، لأهلها الذين أسموها ذلك الاسم الغريب . أجابوا بأنه اسم جدتها الكبيرة ، والحق أن هذه الجدة لم تكن امرأة عادية ، بل هي المرأة التي فقدت زوجها في الخامسة والعشرين ، فرعت الأرض وربت الأبناء مستغنية عن الرجال ، وتحملت وفاة ابنتها الصبية بجلد لا مثيل له .
تتذكر شجر ، تتأمل -وقد صارت خمسينية - صورة زفاف والديها بعد سنوات من رحيلهما ..
" ماذا حدث ؟ لماذا قفزت فجأة من شجر الطفلة إلى شجر في كهولتها ؟! أعيد قراءة ما كتبت ، أتملاه ، أحدق في الشاشة المضاءة ، أتساءل : هل اواصل حكاية شجر الصغيرة أم أعود إلى الجدة القديمة وأتتبع مسار ذريتها وصولا مرة أخرى إلى الحفيدة ؟ "
بهذا التساؤل تقطع د. رضوى عاشور السرد وتفاجئ قارئها في الفصل الأول من الرواية ، الرواية التي تدور في حكايتين متوازيتين لكن متقاربتين إلى حد التلاصق : حكاية شجر البطلة المتخيلة ، وحكاية رضوى الكاتبة نفسها تحكي بعضا من سيرتها الذاتية ، وتتوقف أحيانا لتراجع مع القارئ افكارها وخواطرها أثناء الكتابة .
............................................
رضوى..
الصورة في أوائل الخمسينات : طفلة قصيرة الشعر شاحبة الوجه نوعا تقف بين زملائها المصطفين بزي المدرسة الموحد . مدرسة فرنسية اسمها منقوش بحروف كبيرة على جانبي الحافلة التي تذهب وتجيء بها كل يوم . لكن الاسم لا يلبث أن ينزوي إلى حروف صغيرة بين قوسين تحت الاسم العربي الجديد بعد تأميم المدرسة . ما الذي يبقى في الذاكرة من هذه السنوات البعيدة ؟ مدام ميشيل : مدرسة اللغة الفرنسية ، جافة إلا مع الطالبات الأجنبيات واليهوديات . تضطهد رضوى ، توبخها على أخطائها في الإنشاء ، تتقصدها حتى تبكي وسط زميلاتها في الفصل .
............................................
شجر ..
كان الأستاذ فوزي مختلفا . مختلفا جدا عن مدام ميشيل مدرسة رضوى وكذلك عن غيره من المدرسين الذين اعتادتهم شجر وزميلاتها في الصف السادس الابتدائي .
" ما معنى كلمة : تاريخ ؟ "
سألهم بابتسامة هادئة في أول لقاء ، واستمع إليهن جميعا ، وفي آخر الحصة كان الواجب الذي طلبه منهن غريبا ومدهشا : ان يفكرن في السؤال ، ويسألن الأهل والكتب ، ثم يخبرنه بالجواب في الحصة القادمة . لا حفظ ؟! لا كتابة تتعب الأيدي ؟! أحبته التلميذات ، أما شجر فاعتبرته ملكا هبط إليها من السماء ، حتى عادت من عطلة نصف العام فوجدت مدرسا آخر . أين ذهب الأستاذ فوزي ؟ ثار السؤال في كل مكان ولا أحد يجيب .
لم تعرف إلا في العام التالي حين أخبرتها زميلتها أنه سجن . لماذا ؟ أجابت الزميلة أنه شيوعي يعادي عبد الناصر . أخذت العنوان وذهبت إلى بيته . استقبلتها والدته . أكدت لها الحقيقة .
بدت الأسئلة الثائرة تضرب براءة الصبية بعنف : كيف يوضع هذا الملاك في السجن ؟ وكيف يضربها أبها لأنها ذهبت لتسأل عنه وينعتها بقلة الأدب ؟
..................................
رضوى ..
التي قطعت ميدان التحرير متجهة إلى المدرسة ، بادئة بالباب الصغير المخصص لأطفال الحضانة – لم تكن الطفلة ، بل الأستاذة الجامعية التي تخطت الخمسين . تتذكر أول أيام الدراسة : طفلة واقفة تنتظر أن ينادى اسمها لتركب الحافلة . تتوقف أمام باب المسرح الذي كانت تبهرها فيه رقصات الباليه في حفلات المدرسة السنوية . الآن تحول المسرح إلى مسرح تجاري ، تحول المقهى الذي كانت تجلس فيه مع المثقفين في السبعينات إلى مطاعم للوجبات السريعة ، وقبل أن تعبر البوابة استوقفها أحد العاملين ، ولم يسمح لها بالدخول .
................................
شجر ..
صورة (1) :
شجر شابة في الخامسة والعشرين ، عن يمينها المنصة والأساتذة في الأرواب السوداء ، وأمامها في المقاعد زملاؤها والأهل والأصدقاء . تقرر اللجنة منحها درجة الماجستير في التاريخ الحديث بتقدير امتياز .
لا تشي الصورة بما سيحدث بعد شهور قليلة ، التحقت باعتصام الطلاب في أوائل 1972 ثم اقتيدت مع الآخرين إلى السجن . قضت به عشرة أيام ثم عادت إلى عملها . استدعاها رئيس الجامعة . عنفها . هددها بالطرد من الجامعة . لكنها لم تعتذر عن موقفها ، وبدأت بسرعة في التحضير للدكتوراة .
صورة (2) :
قريبة الشبه من الأولى ، تحصل فيها شجر على الدكتوراة .
صور أخرى كثيرة :
شجر في الروب الأسود تناقش رسائل الطلاب ، تتقدم في العمر ، يتغير شعرها الأسود القصير إلى رمادي مصفف للخلف بوقار .
..............................
رضوى ..
يناير 1959 ، رضوى تدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة ، بعد 4 سنوات ونصف من رحيل جدها أستاذ اللغات الشرقية بالكلية نفسها . لكنها – بعكس شجر – تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية . تعين معيدة بجامعة عين شمس وتواصل رحلة الماجستير والدكتوراة .
" لم لا أكتب سوى هذه النتف من حياتي في الجامعة ؟ كسل أم قصور أم مراوغة ؟ أم حكمة تتشبث بمسافة تجعل السنوات الثلاثين التي قضيتها فيها تبدو لي الآن كبحر يمكن أن أغرق فيه ؟ أي كاتب استطاع أن يضع كل عمره في نص واحد ؟ "
.............................
شجر ..
تعرفت عليه في المصعد . طفل صغير في الرابعة من عمره . اسمه كريم . أخذها بذكائه وخفة ظله وثرثرته اللطيفة . صارا صديقين يتزاوران رغم فارق العمر الشاسع .
في سبتمبر 1981 اعتقلت مع أساتذة الجامعة الذين اعتقلوا وفصلوا من العمل . لم تفزع . بقيت في السجن تتأمل حياتها بهدوء ، تتأمل علاقتها بالطلاب الذين تدرسهم أو الذين عرفتهم عن قرب وهي تشرف على رسائلهم . حين عادت إلى البيت كان كريم غاضبا . لم يحتمل أن تتركه شهورا دون سؤال . عقله لم يصدق أنها مسافرة كما أخبرته أمه . لم تجد بدا من إخباره بحقيقة سجنها . عادت إلى الجامعة بقرار جمهوري بعودة المفصولين .
.................................
رضوى ..
ذات صباح تدخل الكلية . يستوقفها هيكل من المعدن والزجاج خلفه ملابس معلقة . سألت المرأة الجالسة فأجابت بأنها مغسلة افتتحت هذا الأسبوع . صدمها المشهد القبيح في مدخل الكلية . جرت مذهولة إلى الوكيل . قال إنه لزيادة موارد الكلية . كان المشهد أسوأ في المبنى الآخر : جوارب ، أحذية ، توابل ، أشرطة كاسيت ذات صوت مرتفع ، إذ كانت القاعة قد تم تأجيرها كذلك . بعد جلسة عاصفة ومداولات في مجلس القسم تقرر إزالة المغسلة والمحل .
................................
شجر ..
إذن انتصرت رضوى في جولتها فماذا عنك ِ يا شجر ؟
كان الأمر غريبا وشجر تصحح أوراق الإجابة : جملة تتكرر في سطرين متعاقبين سهوا أو تسرعا من كاتبها ، لكن كيف يتكرر ذلك في أربع ورقات متتالية ؟ أعادت فحص الأوراق . تأكدت . حالة غش جماعي . كيف خانها الطلاب الذين منحتهم عمرها ؟ وقفت أمامهم في المدرج . خرجت مشاعرها المتوترة من فمها دون تعقل أو ترتيب . تحدثت دون وعي عن الجامعة والحلم والأجيال التي تخرجت منها .
بدأ الطلاب يتحدثون . قالوا إن الغش هو القاعدة في المدارس وفي الجامعة ، وإن المراقبين يساعدونهم عليه . قام أحدهم وقال لها إنه غش في هذا الامتحان وفي غيره ، لكنه طالبها ألا تمضي في فكرة ترك الجامعة ، فوجودها يحفظ له قيمة ونورا في الظلمات التي تحيط به أينما ذهب . كتبت مذكرة تطالب العميد بإعادة الامتحان بعد ثبوت الغش في أكثر من ربع الأوراق . لكن العميد رد بأن المراقبة دقيقة والامتحانات منضبطة . لم يفته أن يرجع التشابه إلى أن الأسئلة متوقعة ومتكررة والطلاب يحفظون المذكرات بالنص !
..........................................
رضوى ..
سبتمبر 1981..لم تذهب رضوى إلى المعتقل ، وإن فصلت من الجامعة . عرفت بالخبر وهي حبيسة غرفة في مصحة لأمراض الصدر بالمجر ، تعاني من ارتشاح بلوري .
" الأوضاع في مصر لها وطأة أحد من تلك الآلام التي تمتد من ظهري إلى كتفي الأيسر وعنقي بعد كل مرة يضعون الإبرة في الرئة لسحب ما بها من ماء . "
تقضي وقتا بطيئا مع المذياع تسمع أخبار اعتقال أصدقائها وزملائها في مصر . وتتعلق عيناها بالنافذة انتظارا لوقت مجيء زوجها وابنها للزيارة (وكان زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي قد تم ترحيله من مصر مع اتفاقية السلام مع إسرائيل ، وصارت تسافر وابنها تميم إليه في أوربا مع عطلات الصيف) .
1982..انهمكت رضوى في الإعداد للسفر . ودعها مريد في المطار وسافرت هي وتميم إلى القاهرة . وصلت فجرا . نامت ولما استيقظت انهمكت في فتح الحقائب وترتيب الأشياء . لم تكن تعرف أنه في هذا الوقت كانت إسرائيل تقوم بالمذابح في بيروت . لماذا يخالجها هذا الشعور الغريب بالذنب ؟ هل كانت معرفتها أو متابعتها ستقدم أو تؤخر ؟
عرفت وتابعت باهتمام . أعداد الجثث التي تم التعرف عليها ، والأخرى التي دفنت في مقابر جماعية أو تحت الأنقاض . حكومة إسرائيل تنشر إعلانا مدفوع الأجر في كبريات الصحف العالمية تنعي القتلى وتحيل الحادث إلى وحدات لبنانية .
.......................................
شجر ..
ما الذي يدفع أستاذة جامعية معروفة بالهدوء والوقار أن تفعل كل هذا ؟ تصرخ في وسط الحرم الجامعي ، يصفها عميد الكلية بأنها فقدت عقلها ، تقدم استقالتها من الجامعة بعد أكثر من ثلاثين سنة ، تغلق البيت على نفسها ، ثم تأخذ سيارتها في رحلة فردية تأملية طويلة . لم يكن ما خسرته قليلا . كريم ليس كما كان . صامت في ثبات متكلف ، لا يريد أن يحكي شيئا عن تجربة اعتقاله والتعذيب الذي تعرض له هو وزملاؤه . خليل : الطالب النابغ الذي توقعت منه الكثير ، والذي دافعت باستماتة عن تعيينه معيدا رغم انضمامه للجماعات السلفية . الآن تغير . صار يجيد مواءمة الأمور ولا يصطدم بأحد . يحصل على الماجستير والدكتوراة بسرعة ولا يثير المشاكل . تستدعيه . تعنفه لأنه اختار أسهل الطرق وأقبحها ، لكنها لا تستطيع أن تغير من أمره شيئا .
ويوسف ؟ صداقة عمر وزمالة جامعة جمعتهما لسنوات طويلة . تفاهم وتوجهات مشتركة . فاجأها بالزيارة في لندن بعد الحادثة . حين تعرضت للاعتداء من متطرفين بعد ما قالته في ندوة علمية عن المفكر اليهودي مارتن بوبر ، جعل الحضور يتهمونها بالتعصب للعرب ومعاداة السامية . جمعهما أيضا الغضب والثورة في اجتماع مجلس القسم في ذلك اليوم . رسالة دكتوراة رفضها عضوان في لجنة المناقشة لأنها لا تصلح . المشرف يشكل لجنة جديدة تقبل الرسالة وتمنح الباحث درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف . شجر تغضب ويعلو صوتها . يوسف يثور بشدة حتى يخرجه أحد زملائه من الاجتماع ، الذي يقر المجلس في نهايته بحصول الباحث على الدرجة . تقرأ الإعلان في مدخل الكلية :
" توفي مساء الأمس الأستاذ الدكتور يوسف علي فهمي . الأستاذ بالكلية "
لا تصدق . يخبرونها أنه أصيب بأزمة قلبية مات على إثرها . سافرت إلى أمه في الصعيد . لم تستطع أن تقول لها ما قالته في كل مكان إن مجلس الكلية قتله . قبّلت رأسها وعادت إلى القاهرة .
لم تستطع التحمل . ثارت وهي تشهد عبث وقبح ما يسمى بالمهرجان السنوي الذي يقولون إن الطلاب يمثلون فيه مشاهد من تاريخ مصر ، بصورة هزلية رديئة . ركضت وجذبت العميد من اجتماعه . لم يزد على أن ابتسم واستغرب غضبها . قررت بعدها مغادرة الجامعة .
٢٦/٧/٢٠١٠
فوفوزيلا
لا تسأليني عن غد ٍ لا تسألي
فغدا أعود كما بدأت ..غريبا
شعر..إبراهيم ناجي
يقولون إنها من تراث جنوب أفريقيا ، كانوا قديما يستخدمونها في النداء على بعضهم للاجتماع في الأمور الهامة . هي تلك الآلة الغريبة التي يصل طولها إلى المتر وتصنع من البلاستيك أو القصدير . بالتأكيد رأيتها ووصلك صوتها المزعج أثناء مباريات كأس العالم . دعك من طنينها الذي يقولون إنه يشبه صوت الفيلة ، فأنا لم أسمع صوت الفيل من قبل لأحكم على صحة هذا الشبه ، لكن المؤكد أن 127 ديسيبل من هذا الصوت الممدود المتصل أمر شديد السخف . دعك أيضا من أن الاتحاد الدولي لكرة القدم رفض كل شكاوي اللاعبين والمدربين ، والتحذيرات التي انطلقت عن ضرر الفوفوزيلا بالأذن ، وأبقى على وجودها كجزء من ثقافة البلد كما صرح رئيسه بلاتر . قد تكون هناك كما يتردد شراكة ما بين الفيفا والشركة المنتجة ، لكن السؤال الذي يلفت نظري هو : لماذا تتمسك جنوب إفريقيا بهذا الإصرار بمظهر من مظاهر ثقافتها حتى جعلت مشجعي العالم كله يستخدمونها ، وربما يصدرونها إلى بلادهم بعد البطولة ؟
لماذا لم تحاول جنوب أفريقيا أن تغير جلدها وتصبغ بشرتها السمراء بالألوان التي ترضي الغربيين الأكثر عراقة في اللعبة والأكثر تقدما في الحضارة ؟
عندما نظمت مصر بطولة أمم أفريقيا 2006 ، وضعنا تمثالا ساذجا يشبه أبا الهول في واجهة ستاد القاهرة المقابلة للمقصورة ، وفي أي ظاهرة فنية أو رياضية على أرضنا نأتي بجموع الراقصين في ثياب فرعونية (لا أعتقد أن هناك أي أساس لاختيارها) يقومون باستعراضات بلهاء يفترض بها التعبير عن تاريخنا الفرعوني . ذلك أننا نحب أن نصدر أنفسنا للعالم دائما من البوابة الفرعونية لأن الكثير من الغربيين لا يعرفون عن مصر سوى هذا الجانب ، مع أننا في واقع الأمر غير مهتمين أصلا بالتاريخ الفرعوني ، ولا نكاد كغالبية عظمى من الشعب نعرف عنه أبسط الأمور ، بل وفينا تيارات لا ترى في الفراعنة سوى فرعون موسى وتعتبرهم رمزا للشرك يجب التنكر له .
نجحت جنوب أفريقيا في تنظيم كأس العالم ، وأظهرت نفسها للعالم عبر واحد من مظاهر ثقافتها التاريخية ، وعبر رجل من المناضلين نحو التحرر الإنساني والتخلص من تخلف العنصرية هو مانديلا ، بالإضافة إلى ملاعب على أحدث الطرز ، ومنحت مظهرا مشرفا للقارة الفقيرة التي تحتضن الحدث العالمي لأول مرة ، فلا يجب أن تكون أوروبيا أو أمريكيا لتتمكن من الإنجاز والتفوق . فإن كنا مكانهم فهل كنا سنملك الثقة في أنفسنا وفي ثقافتنا ؟ وإذا كنا نسعى إلى التغيير والتقدم فهل يعرف أحد على أي وجه نحب أن نكون وأي نموذج نتخذه مثلا ؟
١٩/٤/٢٠١٠
يوميات (4) ..زمن
كل العصور أنا بها فكأنما
عمري ملايينٌ من السنوات ِ
شعر..نزار قباني
قصيدة وديوان ..الرسم بالكلمات
1
اسمه أحمد سيد عابد . هكذا أمليت الاسم وكتبته في أوراقي ثم دخلت الغرفة لأسأل عنه . كان الحاج أحمد - هكذا ناديته تأدبا ولا أدري إن كانت ظروفه قد سمحت له بالحج - في الخامسة والثمانين ، ملتحفا بعمامة تغطي نصف وجهه ومنديل من القماش ، وتغطي مقلتيه المياه البيضاء . كان يومه الأول في المستشفى ، ويفترض بي أسحب عينة دم من أوردته التي تبدو كالشجرة الخريفية العجوز . يتذمر ويشكو حظه في البداية ثم يمنحني يده في استسلام . يشكو لي ابنه - وهو رجل في الخمسينات - من ضعف شهيته . أسأله فيغمغم مشيحا بوجهه بأنه لا يريد طعاما . لكنه فجاة يغير مجرى الحديث ويقول مشيرا إلى مدخل الغرفة :
-كنت ألعب هنا .
أسأله مستغربا : هنا ؟!
يرد : نعم .. زمان . لما كنا صغارا . كنا نأتي إلى هنا ونلعب .
أقول باسما : وكنت تكسب أم تخسر ؟
لكنه يكمل بكل جدية : لا ..لا ..لا يهم . كنا نلعب . وكنا نذهب إلى الفناء الواسع نستمع إلى غناء (محمد طه) و (أبو دراع) .
يقول كلاما كثيرا مدغما لا أتبينه . يبدو مستغرقا في زمن آخر تماما . أطمئن ابنه بأننا سوف نقوم باللازم ، وآخذ عينة الدم ، وأنصرف .
*****************************
2
أقرأ الخبر في الجريدة ، ثم أرى اللقطات على الشاشة للرئيس عائدا من جراحة في الخارج ، يصافح مستقبليه في مطار شرم الشيخ حيث يقضي فترة النقاهة . يسيل الحبر وتنهال كلمات التهنئة من الجميع . التحفز يبدو واضحا على إظهار الرئيس بحالة جيدة تسمح له بإدارة شئون البلاد وربما الترشح لفترة رئاسية سادسة . لكن الفكرة التي تسيطر عليّ هي أن الفارق بين عمر الرئيس والحاج أحمد لا يزيد عن ثلاث سنوات .
****************************
3
أجد أنني بحاجة إلى الراحة من إرهاق العمل . أطالع الجريدة فأجد خبرا عن القمة العربية وكلمة الرئيس في ختامها .
" تصدر عن القمة توصية بتشكيل لجنة تتابع التعاون العربي المشترك "
أتساءل كم مرة سمعت هذا الكلام ، وكم مر من الزمن وأنا أسمعه ، لكنني لا أجد جوابا . أدرك أنني فعلا في حاجة إلى الراحة .
٤/٤/٢٠١٠
يوميات (3) ..أن تنظر خلفك
أيها القادم في عنف قطار الموت ِ
رفقا بالوجوه المتعبه
نحن جربنا كثيرا
وابتلعنا خيبة الوهم حسيرا وكسيرا
وتعلقنا طويلا بذيول العربه
شعر..فاروق شوشة
قصيدة..يدوسنا عام جديد
ديوان..الدائرة المحكمة
كنت أتابع المباراة ، ولم تمض إلا دقائق قليلة حتى كان النجم المخضرم يحرز الهدف . وإذا بالصورة تنتقل نحو المدرجات ، ونرى أسرته ترتدي قمصانا مكتوبا على صدورها رقم 300. وهو ما يساوي عدد الأهداف التي أحرزها (ديل بييرو) في الدوري مع ناديه . وقبل أن تتوقف تحية الجماهير كان (ألكس) يحرز هدفه الثاني ، فنرى على ظهور قمصان الأسرة الرقم 301. لحظتها يقفز إلى ذهني عبد الوهاب مطاوع . مقال بعنوان : هذا حسن ! . أبحث عنه في فهارس كتبه المتراصة على الأرفف حتى أجده . أصل إلى الجملة التي أريدها :
" وإذا أردت أن تختبر نصيبك من السعادة الحقيقية ..فتوقف لتراجع حياتك الآن وتستعرض كل جوانبها ، فإذا استطعت بعد انتهاء المراجعة أن تقول كما قال الفيلسوف الألماني (كانت) وهو يراجع حياته قبل رحيله : هذا حسن ! ..فأنت إنسان سعيد . "
يمكن للنجم الآن - وهو في ختام حياته كلاعب - أن ينظر خلفه ويستمتع بما حققه ويقول : هذا حسن !
ألهذا يملؤني الضجر ؟ أهو السبب في الهم الذي يجثم على الأوقات فلا أعرف من أين يأتي ؟ أخشى أن أنظر خلفي . العجلة تدور والأيام تركض دون لحظة توقف ، وأنا أخاف وقفة المراجعة والحساب . أيام وسنوات أتمنى أن أنساها تماما وأحذفها كأن لم تكن . من أين أتى هذا الرجل بكل هذا الرضا عن النفس ؟
بيد أن الأمل يجب ألا ينقطع ، وقد ينقشع الضباب فأصل بعد التخبط والضلال إلى الطريق المبتغى . ومن يدري فقد يكون فيه من الفائدة ما أعجز عن رؤيته الآن . فلا شك أنني حاولت واجتهدت . وقد يكون حسنا أن أقول في أية لحظة أقرر فيها أن أنظر للوراء إنني لا ظلمت أحدا ولا حملت كرها لأحد . والله أعلم بالنية وبالعاقبة .
٢٧/٣/٢٠١٠
الفجوة
أين مني مجلس أنت به
فتنة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم ٌ
وفراش حائر منك دنا
شعر ..إبراهيم ناجي
قصيدة ..الأطلال
ذاهلا كنت عن كل شيء ، وصوت أم كلثوم ياخذني معه إلى أبعد الآفاق . دقائق من نشوة الروح يتلوها تأمل جمال الكلمات وروعة الموسيقا والجودة التي تغلف العمل بكل تفاصيله . قبل النوم أمد يدي كالعادة إلى الكتاب . أقرأ بعض صفحات تغسل إرهاق اليوم الطويل . لم يكن الكتاب إلا رواية لبهاء طاهر . في لحظة أكتشف أن أم كلثوم قد رحلت منذ عقود ، وأن بهاء طاهر -أطال الله عمره - جاوز السبعين . كأن هذه الأجيال القديمة لا تزال على القمة حتى الآن ، وأن فجوة زمنية كبيرة قد مرت دون أن يأتي من يتسلم الراية . لا أقصد أن كل هذه السنوات كانت قفرا من المواهب والإبداعات ، لكن لا شك أن تراجعا كبيرا قد حدث ، على المستوى القوة والزخم والتأثير ، وأن معدن الأجيال السابقة لا يزال أكثر بريقا وتوهجا .
مع أنه قد انتهى - للأبد ربما - عصر المطرب الأول والزعيم الأوحد والكاتب الأكبر ، وجاء عصر التعدد والانفتاح غير المحدود - لكن الكلام هنا عن عمق الموهبة وقوة المحتوى الإبداعي نفسه . فإذا كان الإعلام في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ساهم في صنع شعبية أم كلثوم الجارفة ، وجعل منها أسطورة قريبة من القداسة لا يمكن المساس بها ، فإنه ليس سببا في أن يستمتع بها شخص من الجيل الحالي لم يعاصر شيئا من هذا كله .
الأسباب ؟ كثيرة . فإن كانت المواهب لا تنضب ، فالمناخ المواجب لرعايتها قد يتغير . تغيرات كثيرة توالت على المجتمع ، تدنت بطموح أفراده من الحلم العام إلى اشتهاء الخلاص الفردي ، وبمستوى تعليمهم إلى هوة الجهل ، وبالمثقفين إلى حد التجاهل أو حتى الازدراء .
الله الذي خلق حنجرة أم كلثوم قادر على خلق من تماثلها أو تفوقها ، لكنها قد لا تجد من يدفع بها إلى الساحة ويأخذ بيدها على الطريق ، أو قد لا يكون لديها ذلك الإصرار والاجتهاد والإخلاص في العمل ، وحسن الاختيار والذائقة ، أو قد تحمل موهبتها نحو تقديم أعمال هابطة ترضي السوق السائدة .
وما بأيدينا إلا السعي والتمسك بالأمل في الإصلاح . على مستوى الأدب هناك رواج في دور النشر والمكتبات الجديدة . وهي فرصة أن تقدم للساحة عددا أكبر من أصحاب الموهبة . وعالم الاتصالات المفتوحة يعطي الكثير من المساحة للإبداع غير المحدود بقيود المكان والمؤسسات . وقد يأتي اليوم الذي نستمتع فيه بما ينتجه حاضرنا دون أن نضطر للترحم على الماضي ، ونبش القبور بحثا عن رحيق إبداع !
٦/٢/٢٠١٠
يوميات (2) ..يومان
ما زلت أذكر عندماجاء الرحيل
وصاح في عيني الأرق
وتعثرت أنفاسنا بين الضلوع
وعاد يشطرنا القلق
ورأيت عمري في يديك
رياح صيف عابث
ورماد أحلام
وشيئا من ورق
هذا أناعمري ورق
حلمي ورق
طفل صغيرفي جحيم الموج حاصره الغرق
شعر..فاروق جويدة
قصيدة وديوان .. لو أننا لم نفترق
كانت أول مرة أذهب فيها للكلية حاملا تلك الورقة المهترئة المسماة ببطاقة الترشيح التي كانت تفتح لي الأبواب -لكنني لم ألحظ أنها كانت تصفع من خلفي بعنف- سامح كان أول من التقيته هناك .. طالب بالسنة الثالثة وعضو باحدى أسر الكلية يستقبل الطلاب الجدد - أمثالي- ..كان ودودا الى حد كبير وساعدني في انهاء الأوراق وعمل الكشف الطبي ..قادني سامح الى " مقر الأسرة " وبدت لي الكلمة ذات وقع رنان مع أن المكان لم يكن الا منطقة خالية بين مبنيين قديمين ..قلت:ان المباني تبدو قديمة جدا ..رد سامح:نعم..كليتنا عتيقة للغاية . كنت أشعر بشيء من التوتر لجدة المكان وانتقالي من مرحلة لأخرى ويبدو أن سامح شعر بالأمر فقال: كن على راحتك ..انها كليتك. أذكر ملامحه الدقيقة وهو يتحدث مبتسما : " هذا هو المدرج الذي سوف تدرس به ..لن يكون لك عمل الا أن تأتي الى هنا كل يوم لحضور المحاضرات "تأملت المدرج بعين تكتشف الجديد وتتطلع للاّتي وتمتلئ حماسا ورغبة في التفوق .. هذا مع التهيب لضخامة المكان-بالنسبة لطالب لا يعرف الا الفصول المدرسية-علّق سامح: " ربما ترى المدرج كبيرا ، ستشعر بعد ذلك أنه كعلبة السردين"..كنت محقا هذه المرة يا سامح . ذهبنا الى مكتبة التصوير قال:" لن يكون لك عمل الا أن تحضر المحاضرة ثم تصور الأوراق من هنا" ..لماذا يكرر جملة " لن يكون لك عمل"؟ كأنه كان يعرف أنني حقا سوف أشعر أنني بلا عمل ..لم يكن غريبا اذن أن أول يوم دراسي-السبت- لم يكن فيه عمل ..عندما ذهبت وجدته يوم الاجازة الأسبوعية لكنني لم أنتبه للاشارة وقتها .
(أجزاء مما كتبت هنا من قبل)
طال انتظاري للربيع يرجع
والجو يدفا والزهور تطلع
عاد الربيع عارم عرمرم شباب
إيه اللي خلاني ابتديت أفزع
عجبي !
من رباعيات صلاح جاهين
أقف مع جمع كبير من زملائي . نتبادل التهنئة بالخلاص ونلتقط بعض الصور . أخيرا أتى اليوم الذي أولي فيه ظهري للكلية دون رجعة . آخر يوم كان امتحانا لأمراض النساء والولادة . هل هي الإشارات مرة أخرى ؟ هل يعني بأنني سأولد من جديد في هذه اللحظة ؟ تصورته - قبل أن يأتي - يوما مشحونا بانفجار بعد كبت طويل . لكنه لم يكن كذلك . أغلب شعوري هو عدم التصديق ، وعدم التوازن . لذلك ربما تأتيني هذه المنامات الغريبة وأصحو مرهقا . قدمي على الشاطئ ولازلت أشعر أنني على حافة الموج . الشيء الوحيد الذي أشتهيه بوضوح الآن هو صرخة . صرخة عالية طويلة تشق الأفق . صرخة يسود بعدها الصمت وتبدأ كل الموجودات من البداية الأولى كأن لم يكن قبلها شيء . وهل في ذلك من عجب ؟ أليس أول ما يفعله الوليد هو الصراخ ؟
٢٦/١/٢٠١٠
فارق التوقيت
هل أدهشك الخبر الذي وصفته المذيعة بالطريف ؟ لكنني أضيف لك الآن أن فروق درجات الحرارة قد يصل إلى عشر درجات كاملة ، ولذلك فإني أنصحك - من باب الأخوة - بأن تتمهل قبل اختيار الدور الذي تسكنه ، وأن تقف مع نفسك وتسألها بصدق : أي فصول السنة تفضل ؟
هل أنت أكثر دهشة الآن ؟ أنا أيضا كنت مثلك وأنا أشاهد الاحتفال بافتتاح البرج ، والألعاب النارية التي انطلقت من جوانبه فيما يشبه أفلام (هوليود) . الذين زاروا الإمارات انبهروا . يقولون إن (دبي) قطعة من أوربا في رقيها ونظافتها وأناقة مبانيها . (دبي) تفعل كل ما في وسعها لتصبح في قلب العالم – أعني الغرب المتقدم - لا تكتفي بجذب استثماراته ، بل تحيط نفسها دائما بالأضواء لتجذب عيونه وتأتي به عندها : أضخم أبراج العالم ، الجزيرة التي تنشأ على شكل نخلة نائمة ، ثم الكثير من الصخب والاحتفالات والمهرجانات التي لا تتوقف .
أنظر إلى الإمارات وأندهش ، لكنني أظن أن هذا وحده لا يصنع الحضارة ، فلا يمكن أن تصنع دولة كبرى إلا بفكرة البناء الراسخ الأركان ، يقوم على قواعد علمية ، وقواعد صناعية ، وقواعد بناء الدولة على أسس ديمقراطية تساوي بين الأفراد وتحفظ حرياتهم ، ولا أعرف إن كانت الإمارات تسير في هذا الطريق أم لا .
أفكر الآن في أهرام الجيزة ، أتحقق من فكرة بعد الرؤية ، والبناء الراسخ ، والقواعد التي ترمي بجذورها في أعماق الأرض ، لتبقى شاهدة على منجزات حضارة القدماء آلافا من السنوات .
فلا يكفي أن يشتري إماراتيون أندية عالمية دون أن تتطور الرياضة في الإمارات ، ولا أن تقيم مهرجانات سينمائية صاخبة ولا تشارك فيها بأفلام ، أو أن تدعو مشاهير لاعبي التنس ، ومحترفي سباقات السيارات ولا تجد إماراتيا واحدا بين المشاركين .
ما يبدو لي ، أن الإمارات لديها الرغبة في أن تفعل شيئا ، وهي نقطة البداية ، ولديها الأموال التي يمكن أن تساعدها على فعله ، والسنوات القادمة ستكشف عما إن كانت ستستغل هذه الفرصة أم تضيعها .
تمنيت بعد هذا الافتتاح أن أرى صورة لأهرام الجيزة في هذه الليلة ، لكن كم كانت الشاشة قاسية ، وهي بعد ليلة واحدة فقط تنقل دفتها إلى الإسكندرية ، وتأتي بمواطنين مصريين ، يصرخون ويستغيثون ، ويتمسكون كالغرقى بجدران البناية التي لا يجدون مأوى غيرها ، أمام البلدوزرات التي أتت لهدمها ، بعد أن رأت المحافظة أن البناية ذات الاثنين وعشرين طابقا صارت آيلة للسقوط في أي وقت .
أفكر الآن في البحر الأحمر ، يبدو كالبرزخ الذي يفصل بين عالمين مختلفين تماما ، أدرك أيضا أن فارق التوقيت أصبح كبيرا جدا .