يوم جديد
وأمي حافظة شوارع مصر بالسنتي
تقول لمصر :يا حاجة
ترد : يا بنتي
تقول لها :احكي لي فتقول :
ابدئي إنتي
شعر..تميم البرغوثي
قصيدة وديوان ..قالولي بتحب مصر ؟ قلت مش عارف
سبق وكتبت باختصار عن رواية أطياف للدكتورة رضوى عاشور ، واليوم أقدم عرضا ملخصا لأهم أحداثها ..
لماذا شجر ؟
قالتها الطفلة باستغراب وغضب ، لأهلها الذين أسموها ذلك الاسم الغريب . أجابوا بأنه اسم جدتها الكبيرة ، والحق أن هذه الجدة لم تكن امرأة عادية ، بل هي المرأة التي فقدت زوجها في الخامسة والعشرين ، فرعت الأرض وربت الأبناء مستغنية عن الرجال ، وتحملت وفاة ابنتها الصبية بجلد لا مثيل له .
تتذكر شجر ، تتأمل -وقد صارت خمسينية - صورة زفاف والديها بعد سنوات من رحيلهما ..
" ماذا حدث ؟ لماذا قفزت فجأة من شجر الطفلة إلى شجر في كهولتها ؟! أعيد قراءة ما كتبت ، أتملاه ، أحدق في الشاشة المضاءة ، أتساءل : هل اواصل حكاية شجر الصغيرة أم أعود إلى الجدة القديمة وأتتبع مسار ذريتها وصولا مرة أخرى إلى الحفيدة ؟ "
بهذا التساؤل تقطع د. رضوى عاشور السرد وتفاجئ قارئها في الفصل الأول من الرواية ، الرواية التي تدور في حكايتين متوازيتين لكن متقاربتين إلى حد التلاصق : حكاية شجر البطلة المتخيلة ، وحكاية رضوى الكاتبة نفسها تحكي بعضا من سيرتها الذاتية ، وتتوقف أحيانا لتراجع مع القارئ افكارها وخواطرها أثناء الكتابة .
............................................
رضوى..
الصورة في أوائل الخمسينات : طفلة قصيرة الشعر شاحبة الوجه نوعا تقف بين زملائها المصطفين بزي المدرسة الموحد . مدرسة فرنسية اسمها منقوش بحروف كبيرة على جانبي الحافلة التي تذهب وتجيء بها كل يوم . لكن الاسم لا يلبث أن ينزوي إلى حروف صغيرة بين قوسين تحت الاسم العربي الجديد بعد تأميم المدرسة . ما الذي يبقى في الذاكرة من هذه السنوات البعيدة ؟ مدام ميشيل : مدرسة اللغة الفرنسية ، جافة إلا مع الطالبات الأجنبيات واليهوديات . تضطهد رضوى ، توبخها على أخطائها في الإنشاء ، تتقصدها حتى تبكي وسط زميلاتها في الفصل .
............................................
شجر ..
كان الأستاذ فوزي مختلفا . مختلفا جدا عن مدام ميشيل مدرسة رضوى وكذلك عن غيره من المدرسين الذين اعتادتهم شجر وزميلاتها في الصف السادس الابتدائي .
" ما معنى كلمة : تاريخ ؟ "
سألهم بابتسامة هادئة في أول لقاء ، واستمع إليهن جميعا ، وفي آخر الحصة كان الواجب الذي طلبه منهن غريبا ومدهشا : ان يفكرن في السؤال ، ويسألن الأهل والكتب ، ثم يخبرنه بالجواب في الحصة القادمة . لا حفظ ؟! لا كتابة تتعب الأيدي ؟! أحبته التلميذات ، أما شجر فاعتبرته ملكا هبط إليها من السماء ، حتى عادت من عطلة نصف العام فوجدت مدرسا آخر . أين ذهب الأستاذ فوزي ؟ ثار السؤال في كل مكان ولا أحد يجيب .
لم تعرف إلا في العام التالي حين أخبرتها زميلتها أنه سجن . لماذا ؟ أجابت الزميلة أنه شيوعي يعادي عبد الناصر . أخذت العنوان وذهبت إلى بيته . استقبلتها والدته . أكدت لها الحقيقة .
بدت الأسئلة الثائرة تضرب براءة الصبية بعنف : كيف يوضع هذا الملاك في السجن ؟ وكيف يضربها أبها لأنها ذهبت لتسأل عنه وينعتها بقلة الأدب ؟
..................................
رضوى ..
التي قطعت ميدان التحرير متجهة إلى المدرسة ، بادئة بالباب الصغير المخصص لأطفال الحضانة – لم تكن الطفلة ، بل الأستاذة الجامعية التي تخطت الخمسين . تتذكر أول أيام الدراسة : طفلة واقفة تنتظر أن ينادى اسمها لتركب الحافلة . تتوقف أمام باب المسرح الذي كانت تبهرها فيه رقصات الباليه في حفلات المدرسة السنوية . الآن تحول المسرح إلى مسرح تجاري ، تحول المقهى الذي كانت تجلس فيه مع المثقفين في السبعينات إلى مطاعم للوجبات السريعة ، وقبل أن تعبر البوابة استوقفها أحد العاملين ، ولم يسمح لها بالدخول .
................................
شجر ..
صورة (1) :
شجر شابة في الخامسة والعشرين ، عن يمينها المنصة والأساتذة في الأرواب السوداء ، وأمامها في المقاعد زملاؤها والأهل والأصدقاء . تقرر اللجنة منحها درجة الماجستير في التاريخ الحديث بتقدير امتياز .
لا تشي الصورة بما سيحدث بعد شهور قليلة ، التحقت باعتصام الطلاب في أوائل 1972 ثم اقتيدت مع الآخرين إلى السجن . قضت به عشرة أيام ثم عادت إلى عملها . استدعاها رئيس الجامعة . عنفها . هددها بالطرد من الجامعة . لكنها لم تعتذر عن موقفها ، وبدأت بسرعة في التحضير للدكتوراة .
صورة (2) :
قريبة الشبه من الأولى ، تحصل فيها شجر على الدكتوراة .
صور أخرى كثيرة :
شجر في الروب الأسود تناقش رسائل الطلاب ، تتقدم في العمر ، يتغير شعرها الأسود القصير إلى رمادي مصفف للخلف بوقار .
..............................
رضوى ..
يناير 1959 ، رضوى تدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة ، بعد 4 سنوات ونصف من رحيل جدها أستاذ اللغات الشرقية بالكلية نفسها . لكنها – بعكس شجر – تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية . تعين معيدة بجامعة عين شمس وتواصل رحلة الماجستير والدكتوراة .
" لم لا أكتب سوى هذه النتف من حياتي في الجامعة ؟ كسل أم قصور أم مراوغة ؟ أم حكمة تتشبث بمسافة تجعل السنوات الثلاثين التي قضيتها فيها تبدو لي الآن كبحر يمكن أن أغرق فيه ؟ أي كاتب استطاع أن يضع كل عمره في نص واحد ؟ "
.............................
شجر ..
تعرفت عليه في المصعد . طفل صغير في الرابعة من عمره . اسمه كريم . أخذها بذكائه وخفة ظله وثرثرته اللطيفة . صارا صديقين يتزاوران رغم فارق العمر الشاسع .
في سبتمبر 1981 اعتقلت مع أساتذة الجامعة الذين اعتقلوا وفصلوا من العمل . لم تفزع . بقيت في السجن تتأمل حياتها بهدوء ، تتأمل علاقتها بالطلاب الذين تدرسهم أو الذين عرفتهم عن قرب وهي تشرف على رسائلهم . حين عادت إلى البيت كان كريم غاضبا . لم يحتمل أن تتركه شهورا دون سؤال . عقله لم يصدق أنها مسافرة كما أخبرته أمه . لم تجد بدا من إخباره بحقيقة سجنها . عادت إلى الجامعة بقرار جمهوري بعودة المفصولين .
.................................
رضوى ..
ذات صباح تدخل الكلية . يستوقفها هيكل من المعدن والزجاج خلفه ملابس معلقة . سألت المرأة الجالسة فأجابت بأنها مغسلة افتتحت هذا الأسبوع . صدمها المشهد القبيح في مدخل الكلية . جرت مذهولة إلى الوكيل . قال إنه لزيادة موارد الكلية . كان المشهد أسوأ في المبنى الآخر : جوارب ، أحذية ، توابل ، أشرطة كاسيت ذات صوت مرتفع ، إذ كانت القاعة قد تم تأجيرها كذلك . بعد جلسة عاصفة ومداولات في مجلس القسم تقرر إزالة المغسلة والمحل .
................................
شجر ..
إذن انتصرت رضوى في جولتها فماذا عنك ِ يا شجر ؟
كان الأمر غريبا وشجر تصحح أوراق الإجابة : جملة تتكرر في سطرين متعاقبين سهوا أو تسرعا من كاتبها ، لكن كيف يتكرر ذلك في أربع ورقات متتالية ؟ أعادت فحص الأوراق . تأكدت . حالة غش جماعي . كيف خانها الطلاب الذين منحتهم عمرها ؟ وقفت أمامهم في المدرج . خرجت مشاعرها المتوترة من فمها دون تعقل أو ترتيب . تحدثت دون وعي عن الجامعة والحلم والأجيال التي تخرجت منها .
بدأ الطلاب يتحدثون . قالوا إن الغش هو القاعدة في المدارس وفي الجامعة ، وإن المراقبين يساعدونهم عليه . قام أحدهم وقال لها إنه غش في هذا الامتحان وفي غيره ، لكنه طالبها ألا تمضي في فكرة ترك الجامعة ، فوجودها يحفظ له قيمة ونورا في الظلمات التي تحيط به أينما ذهب . كتبت مذكرة تطالب العميد بإعادة الامتحان بعد ثبوت الغش في أكثر من ربع الأوراق . لكن العميد رد بأن المراقبة دقيقة والامتحانات منضبطة . لم يفته أن يرجع التشابه إلى أن الأسئلة متوقعة ومتكررة والطلاب يحفظون المذكرات بالنص !
..........................................
رضوى ..
سبتمبر 1981..لم تذهب رضوى إلى المعتقل ، وإن فصلت من الجامعة . عرفت بالخبر وهي حبيسة غرفة في مصحة لأمراض الصدر بالمجر ، تعاني من ارتشاح بلوري .
" الأوضاع في مصر لها وطأة أحد من تلك الآلام التي تمتد من ظهري إلى كتفي الأيسر وعنقي بعد كل مرة يضعون الإبرة في الرئة لسحب ما بها من ماء . "
تقضي وقتا بطيئا مع المذياع تسمع أخبار اعتقال أصدقائها وزملائها في مصر . وتتعلق عيناها بالنافذة انتظارا لوقت مجيء زوجها وابنها للزيارة (وكان زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي قد تم ترحيله من مصر مع اتفاقية السلام مع إسرائيل ، وصارت تسافر وابنها تميم إليه في أوربا مع عطلات الصيف) .
1982..انهمكت رضوى في الإعداد للسفر . ودعها مريد في المطار وسافرت هي وتميم إلى القاهرة . وصلت فجرا . نامت ولما استيقظت انهمكت في فتح الحقائب وترتيب الأشياء . لم تكن تعرف أنه في هذا الوقت كانت إسرائيل تقوم بالمذابح في بيروت . لماذا يخالجها هذا الشعور الغريب بالذنب ؟ هل كانت معرفتها أو متابعتها ستقدم أو تؤخر ؟
عرفت وتابعت باهتمام . أعداد الجثث التي تم التعرف عليها ، والأخرى التي دفنت في مقابر جماعية أو تحت الأنقاض . حكومة إسرائيل تنشر إعلانا مدفوع الأجر في كبريات الصحف العالمية تنعي القتلى وتحيل الحادث إلى وحدات لبنانية .
.......................................
شجر ..
ما الذي يدفع أستاذة جامعية معروفة بالهدوء والوقار أن تفعل كل هذا ؟ تصرخ في وسط الحرم الجامعي ، يصفها عميد الكلية بأنها فقدت عقلها ، تقدم استقالتها من الجامعة بعد أكثر من ثلاثين سنة ، تغلق البيت على نفسها ، ثم تأخذ سيارتها في رحلة فردية تأملية طويلة . لم يكن ما خسرته قليلا . كريم ليس كما كان . صامت في ثبات متكلف ، لا يريد أن يحكي شيئا عن تجربة اعتقاله والتعذيب الذي تعرض له هو وزملاؤه . خليل : الطالب النابغ الذي توقعت منه الكثير ، والذي دافعت باستماتة عن تعيينه معيدا رغم انضمامه للجماعات السلفية . الآن تغير . صار يجيد مواءمة الأمور ولا يصطدم بأحد . يحصل على الماجستير والدكتوراة بسرعة ولا يثير المشاكل . تستدعيه . تعنفه لأنه اختار أسهل الطرق وأقبحها ، لكنها لا تستطيع أن تغير من أمره شيئا .
ويوسف ؟ صداقة عمر وزمالة جامعة جمعتهما لسنوات طويلة . تفاهم وتوجهات مشتركة . فاجأها بالزيارة في لندن بعد الحادثة . حين تعرضت للاعتداء من متطرفين بعد ما قالته في ندوة علمية عن المفكر اليهودي مارتن بوبر ، جعل الحضور يتهمونها بالتعصب للعرب ومعاداة السامية . جمعهما أيضا الغضب والثورة في اجتماع مجلس القسم في ذلك اليوم . رسالة دكتوراة رفضها عضوان في لجنة المناقشة لأنها لا تصلح . المشرف يشكل لجنة جديدة تقبل الرسالة وتمنح الباحث درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف . شجر تغضب ويعلو صوتها . يوسف يثور بشدة حتى يخرجه أحد زملائه من الاجتماع ، الذي يقر المجلس في نهايته بحصول الباحث على الدرجة . تقرأ الإعلان في مدخل الكلية :
" توفي مساء الأمس الأستاذ الدكتور يوسف علي فهمي . الأستاذ بالكلية "
لا تصدق . يخبرونها أنه أصيب بأزمة قلبية مات على إثرها . سافرت إلى أمه في الصعيد . لم تستطع أن تقول لها ما قالته في كل مكان إن مجلس الكلية قتله . قبّلت رأسها وعادت إلى القاهرة .
لم تستطع التحمل . ثارت وهي تشهد عبث وقبح ما يسمى بالمهرجان السنوي الذي يقولون إن الطلاب يمثلون فيه مشاهد من تاريخ مصر ، بصورة هزلية رديئة . ركضت وجذبت العميد من اجتماعه . لم يزد على أن ابتسم واستغرب غضبها . قررت بعدها مغادرة الجامعة .
قالتها الطفلة باستغراب وغضب ، لأهلها الذين أسموها ذلك الاسم الغريب . أجابوا بأنه اسم جدتها الكبيرة ، والحق أن هذه الجدة لم تكن امرأة عادية ، بل هي المرأة التي فقدت زوجها في الخامسة والعشرين ، فرعت الأرض وربت الأبناء مستغنية عن الرجال ، وتحملت وفاة ابنتها الصبية بجلد لا مثيل له .
تتذكر شجر ، تتأمل -وقد صارت خمسينية - صورة زفاف والديها بعد سنوات من رحيلهما ..
" ماذا حدث ؟ لماذا قفزت فجأة من شجر الطفلة إلى شجر في كهولتها ؟! أعيد قراءة ما كتبت ، أتملاه ، أحدق في الشاشة المضاءة ، أتساءل : هل اواصل حكاية شجر الصغيرة أم أعود إلى الجدة القديمة وأتتبع مسار ذريتها وصولا مرة أخرى إلى الحفيدة ؟ "
بهذا التساؤل تقطع د. رضوى عاشور السرد وتفاجئ قارئها في الفصل الأول من الرواية ، الرواية التي تدور في حكايتين متوازيتين لكن متقاربتين إلى حد التلاصق : حكاية شجر البطلة المتخيلة ، وحكاية رضوى الكاتبة نفسها تحكي بعضا من سيرتها الذاتية ، وتتوقف أحيانا لتراجع مع القارئ افكارها وخواطرها أثناء الكتابة .
............................................
رضوى..
الصورة في أوائل الخمسينات : طفلة قصيرة الشعر شاحبة الوجه نوعا تقف بين زملائها المصطفين بزي المدرسة الموحد . مدرسة فرنسية اسمها منقوش بحروف كبيرة على جانبي الحافلة التي تذهب وتجيء بها كل يوم . لكن الاسم لا يلبث أن ينزوي إلى حروف صغيرة بين قوسين تحت الاسم العربي الجديد بعد تأميم المدرسة . ما الذي يبقى في الذاكرة من هذه السنوات البعيدة ؟ مدام ميشيل : مدرسة اللغة الفرنسية ، جافة إلا مع الطالبات الأجنبيات واليهوديات . تضطهد رضوى ، توبخها على أخطائها في الإنشاء ، تتقصدها حتى تبكي وسط زميلاتها في الفصل .
............................................
شجر ..
كان الأستاذ فوزي مختلفا . مختلفا جدا عن مدام ميشيل مدرسة رضوى وكذلك عن غيره من المدرسين الذين اعتادتهم شجر وزميلاتها في الصف السادس الابتدائي .
" ما معنى كلمة : تاريخ ؟ "
سألهم بابتسامة هادئة في أول لقاء ، واستمع إليهن جميعا ، وفي آخر الحصة كان الواجب الذي طلبه منهن غريبا ومدهشا : ان يفكرن في السؤال ، ويسألن الأهل والكتب ، ثم يخبرنه بالجواب في الحصة القادمة . لا حفظ ؟! لا كتابة تتعب الأيدي ؟! أحبته التلميذات ، أما شجر فاعتبرته ملكا هبط إليها من السماء ، حتى عادت من عطلة نصف العام فوجدت مدرسا آخر . أين ذهب الأستاذ فوزي ؟ ثار السؤال في كل مكان ولا أحد يجيب .
لم تعرف إلا في العام التالي حين أخبرتها زميلتها أنه سجن . لماذا ؟ أجابت الزميلة أنه شيوعي يعادي عبد الناصر . أخذت العنوان وذهبت إلى بيته . استقبلتها والدته . أكدت لها الحقيقة .
بدت الأسئلة الثائرة تضرب براءة الصبية بعنف : كيف يوضع هذا الملاك في السجن ؟ وكيف يضربها أبها لأنها ذهبت لتسأل عنه وينعتها بقلة الأدب ؟
..................................
رضوى ..
التي قطعت ميدان التحرير متجهة إلى المدرسة ، بادئة بالباب الصغير المخصص لأطفال الحضانة – لم تكن الطفلة ، بل الأستاذة الجامعية التي تخطت الخمسين . تتذكر أول أيام الدراسة : طفلة واقفة تنتظر أن ينادى اسمها لتركب الحافلة . تتوقف أمام باب المسرح الذي كانت تبهرها فيه رقصات الباليه في حفلات المدرسة السنوية . الآن تحول المسرح إلى مسرح تجاري ، تحول المقهى الذي كانت تجلس فيه مع المثقفين في السبعينات إلى مطاعم للوجبات السريعة ، وقبل أن تعبر البوابة استوقفها أحد العاملين ، ولم يسمح لها بالدخول .
................................
شجر ..
صورة (1) :
شجر شابة في الخامسة والعشرين ، عن يمينها المنصة والأساتذة في الأرواب السوداء ، وأمامها في المقاعد زملاؤها والأهل والأصدقاء . تقرر اللجنة منحها درجة الماجستير في التاريخ الحديث بتقدير امتياز .
لا تشي الصورة بما سيحدث بعد شهور قليلة ، التحقت باعتصام الطلاب في أوائل 1972 ثم اقتيدت مع الآخرين إلى السجن . قضت به عشرة أيام ثم عادت إلى عملها . استدعاها رئيس الجامعة . عنفها . هددها بالطرد من الجامعة . لكنها لم تعتذر عن موقفها ، وبدأت بسرعة في التحضير للدكتوراة .
صورة (2) :
قريبة الشبه من الأولى ، تحصل فيها شجر على الدكتوراة .
صور أخرى كثيرة :
شجر في الروب الأسود تناقش رسائل الطلاب ، تتقدم في العمر ، يتغير شعرها الأسود القصير إلى رمادي مصفف للخلف بوقار .
..............................
رضوى ..
يناير 1959 ، رضوى تدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة ، بعد 4 سنوات ونصف من رحيل جدها أستاذ اللغات الشرقية بالكلية نفسها . لكنها – بعكس شجر – تلتحق بقسم اللغة الإنجليزية . تعين معيدة بجامعة عين شمس وتواصل رحلة الماجستير والدكتوراة .
" لم لا أكتب سوى هذه النتف من حياتي في الجامعة ؟ كسل أم قصور أم مراوغة ؟ أم حكمة تتشبث بمسافة تجعل السنوات الثلاثين التي قضيتها فيها تبدو لي الآن كبحر يمكن أن أغرق فيه ؟ أي كاتب استطاع أن يضع كل عمره في نص واحد ؟ "
.............................
شجر ..
تعرفت عليه في المصعد . طفل صغير في الرابعة من عمره . اسمه كريم . أخذها بذكائه وخفة ظله وثرثرته اللطيفة . صارا صديقين يتزاوران رغم فارق العمر الشاسع .
في سبتمبر 1981 اعتقلت مع أساتذة الجامعة الذين اعتقلوا وفصلوا من العمل . لم تفزع . بقيت في السجن تتأمل حياتها بهدوء ، تتأمل علاقتها بالطلاب الذين تدرسهم أو الذين عرفتهم عن قرب وهي تشرف على رسائلهم . حين عادت إلى البيت كان كريم غاضبا . لم يحتمل أن تتركه شهورا دون سؤال . عقله لم يصدق أنها مسافرة كما أخبرته أمه . لم تجد بدا من إخباره بحقيقة سجنها . عادت إلى الجامعة بقرار جمهوري بعودة المفصولين .
.................................
رضوى ..
ذات صباح تدخل الكلية . يستوقفها هيكل من المعدن والزجاج خلفه ملابس معلقة . سألت المرأة الجالسة فأجابت بأنها مغسلة افتتحت هذا الأسبوع . صدمها المشهد القبيح في مدخل الكلية . جرت مذهولة إلى الوكيل . قال إنه لزيادة موارد الكلية . كان المشهد أسوأ في المبنى الآخر : جوارب ، أحذية ، توابل ، أشرطة كاسيت ذات صوت مرتفع ، إذ كانت القاعة قد تم تأجيرها كذلك . بعد جلسة عاصفة ومداولات في مجلس القسم تقرر إزالة المغسلة والمحل .
................................
شجر ..
إذن انتصرت رضوى في جولتها فماذا عنك ِ يا شجر ؟
كان الأمر غريبا وشجر تصحح أوراق الإجابة : جملة تتكرر في سطرين متعاقبين سهوا أو تسرعا من كاتبها ، لكن كيف يتكرر ذلك في أربع ورقات متتالية ؟ أعادت فحص الأوراق . تأكدت . حالة غش جماعي . كيف خانها الطلاب الذين منحتهم عمرها ؟ وقفت أمامهم في المدرج . خرجت مشاعرها المتوترة من فمها دون تعقل أو ترتيب . تحدثت دون وعي عن الجامعة والحلم والأجيال التي تخرجت منها .
بدأ الطلاب يتحدثون . قالوا إن الغش هو القاعدة في المدارس وفي الجامعة ، وإن المراقبين يساعدونهم عليه . قام أحدهم وقال لها إنه غش في هذا الامتحان وفي غيره ، لكنه طالبها ألا تمضي في فكرة ترك الجامعة ، فوجودها يحفظ له قيمة ونورا في الظلمات التي تحيط به أينما ذهب . كتبت مذكرة تطالب العميد بإعادة الامتحان بعد ثبوت الغش في أكثر من ربع الأوراق . لكن العميد رد بأن المراقبة دقيقة والامتحانات منضبطة . لم يفته أن يرجع التشابه إلى أن الأسئلة متوقعة ومتكررة والطلاب يحفظون المذكرات بالنص !
..........................................
رضوى ..
سبتمبر 1981..لم تذهب رضوى إلى المعتقل ، وإن فصلت من الجامعة . عرفت بالخبر وهي حبيسة غرفة في مصحة لأمراض الصدر بالمجر ، تعاني من ارتشاح بلوري .
" الأوضاع في مصر لها وطأة أحد من تلك الآلام التي تمتد من ظهري إلى كتفي الأيسر وعنقي بعد كل مرة يضعون الإبرة في الرئة لسحب ما بها من ماء . "
تقضي وقتا بطيئا مع المذياع تسمع أخبار اعتقال أصدقائها وزملائها في مصر . وتتعلق عيناها بالنافذة انتظارا لوقت مجيء زوجها وابنها للزيارة (وكان زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي قد تم ترحيله من مصر مع اتفاقية السلام مع إسرائيل ، وصارت تسافر وابنها تميم إليه في أوربا مع عطلات الصيف) .
1982..انهمكت رضوى في الإعداد للسفر . ودعها مريد في المطار وسافرت هي وتميم إلى القاهرة . وصلت فجرا . نامت ولما استيقظت انهمكت في فتح الحقائب وترتيب الأشياء . لم تكن تعرف أنه في هذا الوقت كانت إسرائيل تقوم بالمذابح في بيروت . لماذا يخالجها هذا الشعور الغريب بالذنب ؟ هل كانت معرفتها أو متابعتها ستقدم أو تؤخر ؟
عرفت وتابعت باهتمام . أعداد الجثث التي تم التعرف عليها ، والأخرى التي دفنت في مقابر جماعية أو تحت الأنقاض . حكومة إسرائيل تنشر إعلانا مدفوع الأجر في كبريات الصحف العالمية تنعي القتلى وتحيل الحادث إلى وحدات لبنانية .
.......................................
شجر ..
ما الذي يدفع أستاذة جامعية معروفة بالهدوء والوقار أن تفعل كل هذا ؟ تصرخ في وسط الحرم الجامعي ، يصفها عميد الكلية بأنها فقدت عقلها ، تقدم استقالتها من الجامعة بعد أكثر من ثلاثين سنة ، تغلق البيت على نفسها ، ثم تأخذ سيارتها في رحلة فردية تأملية طويلة . لم يكن ما خسرته قليلا . كريم ليس كما كان . صامت في ثبات متكلف ، لا يريد أن يحكي شيئا عن تجربة اعتقاله والتعذيب الذي تعرض له هو وزملاؤه . خليل : الطالب النابغ الذي توقعت منه الكثير ، والذي دافعت باستماتة عن تعيينه معيدا رغم انضمامه للجماعات السلفية . الآن تغير . صار يجيد مواءمة الأمور ولا يصطدم بأحد . يحصل على الماجستير والدكتوراة بسرعة ولا يثير المشاكل . تستدعيه . تعنفه لأنه اختار أسهل الطرق وأقبحها ، لكنها لا تستطيع أن تغير من أمره شيئا .
ويوسف ؟ صداقة عمر وزمالة جامعة جمعتهما لسنوات طويلة . تفاهم وتوجهات مشتركة . فاجأها بالزيارة في لندن بعد الحادثة . حين تعرضت للاعتداء من متطرفين بعد ما قالته في ندوة علمية عن المفكر اليهودي مارتن بوبر ، جعل الحضور يتهمونها بالتعصب للعرب ومعاداة السامية . جمعهما أيضا الغضب والثورة في اجتماع مجلس القسم في ذلك اليوم . رسالة دكتوراة رفضها عضوان في لجنة المناقشة لأنها لا تصلح . المشرف يشكل لجنة جديدة تقبل الرسالة وتمنح الباحث درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف . شجر تغضب ويعلو صوتها . يوسف يثور بشدة حتى يخرجه أحد زملائه من الاجتماع ، الذي يقر المجلس في نهايته بحصول الباحث على الدرجة . تقرأ الإعلان في مدخل الكلية :
" توفي مساء الأمس الأستاذ الدكتور يوسف علي فهمي . الأستاذ بالكلية "
لا تصدق . يخبرونها أنه أصيب بأزمة قلبية مات على إثرها . سافرت إلى أمه في الصعيد . لم تستطع أن تقول لها ما قالته في كل مكان إن مجلس الكلية قتله . قبّلت رأسها وعادت إلى القاهرة .
لم تستطع التحمل . ثارت وهي تشهد عبث وقبح ما يسمى بالمهرجان السنوي الذي يقولون إن الطلاب يمثلون فيه مشاهد من تاريخ مصر ، بصورة هزلية رديئة . ركضت وجذبت العميد من اجتماعه . لم يزد على أن ابتسم واستغرب غضبها . قررت بعدها مغادرة الجامعة .
هناك تعليق واحد:
مصر فى مهب الريح
فى خلال الثلاثين عاما الماضية تعرضت مصر الى حملة منظمة لنشر ثقافة الهزيمة بين المصريين, فظهرت أمراض اجتماعية خطيرة عانى ومازال يعانى منها خمسة وتسعون بالمئة من هذا الشعب الكادح . فلقد تحولت مصر تدريجيا الى مجتمع الخمسة بالمئه وعدنا بخطى ثابته الى عصر ماقبل الثورة .. بل أسوء بكثير من مرحلة الاقطاع.
1- الانفجار السكانى .. وكيف أنها خدعة فيقولون أننا نتكاثر ولايوجد حل وأنها مشكلة مستعصية عن الحل.
2- مشكلة الدخل القومى .. وكيف يسرقونه ويدعون أن هناك عجزا ولاأمل من خروجنا من مشكلة الديون .
3- مشكلة تعمير مصر والتى يعيش سكانها على 4% من مساحتها.
4 – العدالة الاجتماعية .. وأطفال الشوارع والذين يملكون كل شىء .
5 – ضرورة الاتحاد مع السودان لتوفير الغذاء وحماية الأمن القومى المصرى.
6 – رئيس مصر القادم .. شروطه ومواصفاته حتى ترجع مصر الى عهدها السابق كدولة لها وزن اقليمى عربيا وافريقيا.
لمزيد من التفاصيل أذهب إلى مقالات ثقافة الهزيمة بالرابط التالى
www.ouregypt.us
إرسال تعليق